كَتبتُ، سابقًا، عن الأوقاف وأبديت قناعة بأنّها، في وجدانها الرّاهن، تعيق الرّعاية وتسيء إليها، في الكنيسة، أكثر ممّا تيسِّرها وتفعِّلها!. ليس ما ينقصنا هو المال، المنقول أو غير المنقول، لتحسين الأداء الرّعائيّ. نحن بحاجة إلى قلب، إلى حبّ، إلى تضحية، إلى بذل، إلى صلاة، إلى ثبات، للخروج من حال الإعاقة الرّوحيّة الحاصلة، بيننا، في الوقت الحاضر؛ وكلّ ما عدا ذلك، من أبسط التّفاصيل إلى أكثرها تعقيدًا، يُعطى لنا، من ذاته، إذ ذاك، بالنّعمة الإلهيّة الّتي تكمِّل النّاقصين، ويُزاد!.
طبعًا، التّعليم مهمّ، وكذلك العبادة، والتّنظيم، شرط أن يكون هذا كلّه، وسواه، في سياق الإيمان الفاعل بالمحبّة، وإلاّ يستحيل التّعليمُ كلامًا أجوف، والعبادةُ طقوسَ خواء، والتّنظيمُ هيكلة موات بشريّ!.
إذا كان الكلام الإلهيّ أن اطلبوا، أوّلاً، ملكوت السّموات وبرّه، وكلّ ما عدا ذلك يُزاد لكم، فهذا معناه أنّ الحاجة هي إلى الواحد، إلى السّلوك في المسيح، إلى الأمانة غير المنقوصة له؛ إثر ذلك، وبدقّة متناهية، يعطيك ربّك كلّ ما يلزمك لإتمامك عملَه، والشّهادةَ لوجهه، وتمجيدَ اسمه. كلّ ما سوى ذلك، في كلّ حال، لا قيمة له، لذا لا تسل عنه ولا تبالي به؛ وإن سألت أو باليت التمست سرابًا وأقمت لذاتك أصنامًا!.
في الكنيسة وصيّة جديدة واحدة أُعطيت: أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم، ثمّ الكلّ يتفرّع منها!. لذا فقط في المحبّة تتجلّى الكنيسة!. والمحبّة تعطيها!. لا تأخذها!. تقتبلها إذا أُحببتَ!. ويبقى سعيك، في كلّ حال، أن تمتدّ صوب الآخرين، أن تتخطّى نفسك، أن تكون مبذولاً!. تجدك حين تنسى ذاتك!.
كثيرون، على هذا، يظنّون أنّهم يؤمنون ولا يؤمنون!. كيف؟ لأنّهم لا يحبّون!. من هؤلاء رعاة وعامّة!. إيمانهم ميت في ذاته لأنّه بلا أعمال، أي بلا أعمال محبّة (يعقوب)!. إيمانهم اعتقادات ولا يحبّون إلاّ خاصّتهم!. وإن كنتم تحبّون الّذين يحبّونكم فأيّ فضل لكم؟!. يحبّون ذواتهم في سواهم!. المحبّة الحقّ تظهر في الّذين لا ترغب فيهم!. إن لم يكن سعيك العميق لأن تحبّ عدوّك كقريبك فمحبّتك سِقْط، وإيمانك زيف!. هل إذا تكلّمتَ في الإلهيّات صرتَ مؤمنًا؟ أما تعلم أنّ إبليس سيّد الكلام في الإلهيّات؟!. أم تراك إذا تعاطيتَ الطّقوس البحت صرت لربِّك عابدًا؟!. طقوس بلا مخافة الله، ومن ثمّ بلا محبّة، مرسح شيطانيّ!. الإنسان قلبٌ، يا عبد!. تُحْبِب فتعبد بالرّوح والحقّ، وإلاّ تتحرّك كمَن يستعبد ربّه للباطل فيه!. ثمّة إيمان صادق وآخر كذوب!. تَصْدق إن أحببتَ، وتكذب إن رائيتَ!. لا ما تُظهر يَهمّ، بل ما تكنّ!. لا أيسر من أن تمثّل الحبّ!. العالم صالة سينمائيّة كونيّة!. الوجدان المشيَّع تمثيليّ الطّابع!. كأنّه الحقيقة، وهو الإيهام!. تقيم في كنف حضارة بتّ إذا مثّلتَ فيها ما تشتهي تحسب أنّك بلغت به المنى واكتفيت!. عالم الخيال، كأنّه الواقع، غَلَب!. ما عادت ثمّة حاجة، في الوجدان، لأكثر من عالم إيهاميّ إيحائيّ إيمائيّ!. قديمًا، قيل: الإنسان حيوان ناطق، مفكِّر!. اليوم، طغى الفكرَ التّصوّرُ!. تتحرّك بقوّة تصوّرك عن نفسك!. تحدّد ملامح كيانك بذاتك وتناطح سحاب خيالك، فلا يعود ثمّة فاصلٌ، بعدُ، بين الواقع والخيال لديك!.
أنت، اليوم، في أزمة، وأزمتُك إيمانُك!. وإيمانك مأزوم لأنّ محبّتك، بالأحرى، شعور وخيال!. منطلقُك ذاتُك، ومحورُك إنِّيتك!. أنت مُقامُ نفسِك!. عمليًّا، سواك أدوات!. تريدهم أن ينعطفوا صوبك، أو أن تشدّهم إليك!. لست تجد معنًى في الامتداد صوب الآخرين، ولا تقوى، في تمحورك، في ذاتك، على أن تُجهد ذاتك لتكون إليهم!. أنت كفاف نفسك!. الآخر، كيانيًّا، لديك، ملغى!. أنت الكلّ!. لا محبّة تُرتجى حيث قِبلتُك محبَّتُك لذاتك!. أنت في عصر الاستهلاك بامتياز!. وفي الاستهلاك لا مطرح لوداد!. الكلّ برسم الاستموات!. غذاؤك جُثث!. مخزنك ثلاّجة كيانيّة كونيّة تلتهم ما فيها غبّ الطلب، خِلْقةً لا تروم فيها حياة!. شهوتُك موت!. وآخر الكأس أن تلحس دمك!. لذّتك بدنُك، وما فاتك يسدّه خيالك!.
المحبّات، على نحو مطّرد، لم يعد لها مكان!. غربة عن سواك لأنّك مُغرِق في غربة عن نفسك!. بتَّ صِنعةً إيهاميّة!. استحليت نفسك مِسْخًا!. اقتبلتَ صورةً عن نفسك أُقْحِمْتْ فيك!. اشتملتْك حضارةُ الموت لأنّك اقتبلتَ الاستغناء، كيانيًّا، عن سواك!.
في هكذا مناخ وجدانيّ، لا كنيسة حيّة تُرتجى ولا إيمان ولا محبّة!. مجانين الله ينحسرون!. في آخر زمن، يجنّ النّاس، حتّى إذا ما التقوا عاقلاً، قالوا: جُنّ!. فلا غرو إن بات ضدُّ المسيح هو المروم!. اعتياد النّاس الموت يجعل الحياةَ، في عيونهم، موتًا، والموتَ حياة!. الإلهيّات، إذ ذاك، تُتعاطى تفهًا!. الحسّ يَضمر والعين تنطفئ!. ما يحيلك إلى صادوم كونيّة!.
ليس ما تُوقفه، بعدُ، لأحد، لإعانته، لخدمته!. ذاك الـ”أحد” بات ممسوحَ الوجه، لا تَلتمسُه!. لم يعد له مكان في النّفس!. توقّفَ عن أن يكون وروحُه وآلامُه وجَمالُه مرتجًى، فلم تعد لك مودّات تُوقفها له!. عمليًّا، ألغيتَه!. لم تعد الكنيسةُ لكما شركةَ متحابِّين!. صارت جُزرَ متباعدين!. لم تعد المياهُ الجامعَ بينكما!. أضحت الفاصل!. لا مسيح معنا، وفيما بيننا، بعدُ، إلاّ ندرة!. فقط، كلام عليه!. مسيحيّة بلا مسيح!. فإن صحوتَ إلى أنّه لا مسيحيّة من دون مسيح، أدركتَ أنّ ثمّة مسيحيّات بمقدار ما للقوم، في أهوائهم، من ألوان!. يجعلون مسيح الرّبّ خادم توثّباتهم!. تَلقى وجوهَهم في مسيحهم، ولا تتبيَّن وجهَ مسيحهم فيهم!.
أمّا بعد، فالقطيع الصّغير قطيع مبذول!. من الحمل الرّافع خطايا العالم يأتي!. يموت، كلّ يوم، ليُحيي ويُحيَى!. حياته يستمددها من تلك الّتي يمدّها، على نحو سيرة المعلّم: خذوا، كلوا، هذا هو جسدي… اشربوا منه كلّكم، هذا هو دمي… يعمل، دائبًا، حتّى لا يستبقي، من ذاته، شيئًا!. يسلبك الحبُّ ذاتَك، حتّى لا يبقى لك، في ذاتك، شيء!. إذ ذاك، يعطيك من ذات ربّك خلْقًا جديدًا، يُتْحِد ذاته بك، ويُتحدك به، فتصير منه وفيه وإليه، شريكًا في نعمته، سليل حياته الأبديّة!.
أبحثُ عن مسيح افتقدتُه!. أيناك، ربّي، في الوجوه؟!. بات عسيرًا عليّ أن أتبيَّنك في زحمة أهوائي وأهواء النّاس!. اجعلني كخاتم على قلبك!. المحبّة قويّة كالموت!. إن أعطى الإنسان كلّ ثروة بيته بدل المحبّة، تُحْتَقَر احتقارًا (نشيد)!.
على مرصَدي أقفُ، وعلى الحِصن أنتصبُ، وأراقب لأرى ماذا يقول لي، وماذا أجيب عن شكواي (حبقوق)!.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي ، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 18 كانون الثاني 2015