لقد تعلمت بنعمة الله أن أساس كل خير, ودعوة الروح إلى التحرر من عقالات الشرير, والسير في الطريق القائدة إلى النور والحياة، إنما هو بالصيام وملازمة الإنسان مكاناً واحداً, أجل تعلمت هذا بعد أن نالني ما نالني من اضطهاد المضطهدين ومقاومات المضادين، وبعد أن درست الحياة درساً عميقاً فخرجت منها بزاد وافر من الخبرة.
فالصيام هو ابتعاد الإنسان عن الجشع والشراهة، وملازمة المكان الواحد تعني سكون الإنسان إلى الكتب الإلهية التي تستبعد الحس وتطهر العقل وتلجم الشهوات الثائرة في الجسد, وتنفي التفكير, وتجعل من العقل معنياً عذباً.
وينحصر اهتمام الإنسان بأعمال الفضيلة ويطير الفكر وراء المعاني السامية, ويزداد العقل استقصاءً للأمور الدنيوية, ويبتدئ عمل الدموع فيتنقى الإنسان من الخيالات, التي تعكر على عقل صفاءه, وبواسطة الكلام الإلهي تتزن الحركات الداخلية الحاصلة في النفس، ويزداد العقل اتساعاً وعمقاً، وتسيطر عليه صوفية عميقة يستطيع معها التفريق بين الروحانيين والقوى المقدسة, وبين الرؤى الحقيقية, والأخيلة الباطلة, ويتولد في العقل خوف من الاهتمامات الدنيوية سببه الصيام ولزوم المكان الواحد، ويسيطر هذا الخوف على العقل فيقضي على الكسل وعلى فكرة التعلق بالدنيا, فتذكو شعلة الجهاد المحتقـِرة لكل خوف والدائسة على كل خطر, والموزعة للحرارة في العقل ليزدري كل شهوة ويمحوها منه، ويطرح أباطيل الدنيا في عالم النسيان، وهكذا يحصل الإنسان على حريته الحقيقية التي هي فرح الروح وقيامة الإنسان مع المسيح في الملكوت السماوي.
فإذا لم يسلك الإنسان هذين الطريقين محتقراً الصيام وملازمة المكان الواحد فليعلم ذلك الإنسان أنه لا يخسر النتائج الوارد ذكرها آنفاً فحسب، بل يزعزع أساس كل الفضائل فيه، فكما أن هذين الطريقين هما رأس العمل الإلهي في النفس، فهما الباب والطريق إلى المسيح إذا عمل بهما الإنسان في عزم وثبات، أما الذي يبتعد عنهما ويتخطاهما فينتهي به المسير إلى النتائج المعاكسة، أي إلى التفكيرات الجسدية والجشع والشراهة، وهذه تربة صالحة لنمو الشهوات في النفس، فالتفكيرات الجسدية تفكك ربط الحياء في الإنسان فتراه يباده بأجوبة خاطئة وغير منتظرة، وأنـَّـى له سداد الرأي وصواب التفكير بعد أن أصبحت أراضي نفسه مزروعة بالشهوات والسقطات، وشطآن نفسه تصخب بالأمواج القوية الهائجة بسبب الأحلام الكبيرة , وإذ ذاك تحترق العينان والجسد ويسبب الحريق سقوط العقل وبلبلته، فينتج عن ذلك التفكير المضطرب الذي يعمل في سقوط الإنسان، وتفتر الهمة في العمل الإلهي، وهذا الفتور في النفس يسبب انزعاجات نفسية فيترك الإنسان نفسه ألعوبة للقلق الداخلي، فتتجدد خطاياه التي كان قد تركها ونسيها، ولا يعود يؤمن بها بالرغم من ترائيها له في كل ظروف حياته وفي طريق تنقلاته من مكان إلى مكان، إن النزوات التي ماتت في عقله وجسده بسبب الصيام وملازمته مكانه تعود وتظهر من جديد في نطاق عقله مع إنها كانت قد أمحت من ذاكرته بسبب النعمة الإلهية والهذيذ بالأمور السماوية.
واختصر فأقول إن كل هذه الأمور الحاصلة في محيط العقل سببها خضوع الفكر لإرادة الشهوات المسببة عن عدم الاستقرار في حالة طبيعية واحدة، بقي علينا أن نبحث عن نتائج الطريق الأخرى، أي عن طريق الإنسان السائر وراء مأكله ومشربه, الإنسان العائش عيشة الخنازير، ما أدراك ما عيشة الخنازير؟ إملاء البطن وعمل مستر في سبيل تحقيق مطالبه واستعمال الزمن كله لإشباع المعدة النهمة، وماذا ترى ينتج من جراء ذلك؟ ثقل في الرأس وترهل في الجسد واسترخاء في الكتفين، أما قوة الله الباقية فيه من الإله الذي فيه فيهملها، ولا يعتمد عليها لبعث قواه من جديد لأنه يفضل الكسل الجسدي على الحركة في سبيل العمل الإلهي، وهذا الكسل يقتل كل شعور بالتوبة، ويسبب عمى وبرودة في التفكير وتحجراً في العقل، فيطبق الظلام على بصيرة الإنسان وتنتشر الغيوم الكثيفة الدكناء في سماء روحه, فإذا به مهملٌ شديد الإهمال لما يرضى خالقه، يعاف التلذذ بالكلام الإلهي في قراءة الكتب الإلهة, شديد الإيثار للبطالة حتى في شؤونه الضرورية، غير عامل في إعادة الطمأنينة إلى عقله الشارد في كل صقيع من أصقاع الأرض، ومن التخمة والنهم تترسب الفضلات والسموم في جميع الأعضاء، فتتولد الأخيلة القذرة، تطوف بالنفس في الليالي بسبب التصورات الدنسة و الصور الرجسة المفعمة بالشهوات، وإذا النفس تقبل من ذاتها على هذه القذارات فتغب منها، وإذا سرير ذلك الشقي وثيابه وجسده كله تتسخ وتتدنس من الإحتلامات الصادرة من منابع الجسد، ويضطرب ليله بالشهوات لان الجسد دائب على شحن الفكر بالقذارة, وبسبب ذلك ترى الإنسان يبتعد عن العفة وينكرها فتحلو له الخطيئة وتلذه دغدغة الشهوات، إذ لا يفتأ يخاطبها بفكره فتجيب وتدغدغه بأناملها فيهنأ ويطمئن، وينتهي به الحال دونما تردد إلى أن تقضي هذه الشهوات وهذه التصورات على قوة البصيرة فيه كما يقول النبي حزقيال: “هذا كان إثم سدوم أختك, إن الاستكبار والشبع من الخبز وطمأنينة الفراغ كانت فيها وفي توابعها ولم تعضد البائس والمسكين” ( حز 16: 49), وقد قال أحد مشاهير الحكماء: إن الذي يترك نفسه على هواها يقودها إلى الحرب والصراع, وإذا ما طلب إليها يومأ الصمود والاستمساك فلن يتيسر له ذلك منه، بسبب نارية الحركات الجسدية والتهيج الملحاح ودغدغة الشهوات التي تثير الجسد لتحقيق رغباته ونزواته، واسمع يا يقول بعض هؤلاء الغير المؤمنين :
إن الاهتمام بالجسد يهيئ النفس لقبول الشهوات فيحيط بها الموت وتسقط تحت العقاب الإلهي، أما النفس المهتمة دائماً بما هو ضروري فتكون حرة مرتاحة، يقل اهتمامها بالجسد ويصبح همها الوحيد الفضيلة، وتقود المرء إلى الميناء الإلهي إلى الفرح الذي لا يعكره اغتمام, إلى الحياة الصالحة.
ثم أن المتع الجسدية لا تقف عند حد تقوية الشهوات وتثبيتها في النفس, بل تقتلع الفضيلة من جذورها، ويصاب الإنسان بمرض الجوع الدائم والتلذذ بالطعام ليزيد في ثورة شهواته واضطرام نيرانها، هذه هي الثمار المخزية الناتجة عن الشراهة، وتلك هي ثمار الصيام وملازمة المكان الواحد, في منسك بعيد عن ضوضاء العالم الذي يقودنا إلى طريق الشر بما يزرعه فينا من أفكار شريرة، بالإضافة إلى ما فينا من هذه الشرور الناتجة عن ضعف الطبيعة الإنسانية.
فعلينا إذن أن نعرف ضعفنا كما يعرف العدو الساعة المناسبة لمهاجمتنا، وعلينا أن نقضي على هذا الضعف، وإلا فطبيعتنا البشرية عاجزة عن مقاومة الشرير وهي معرضة دائماً لنباله وهو يطاردها ساعة يشاء.
علينا أن نفحص أنفسنا ففي النفس جراثيم صغيرة بحجم الغبار لا ترى إلا بالفحص الدقيق, ولا سبيل إلى كشفها ورؤيتها إذا نحن بقينا على حال واحدة من اهتمام بالأمور الدنيوية، فإن الشيطان يثير عاصفا ًمن الدخان يعمي بصيرتنا ويمنعنا من رؤية ما هو في قلوبنا وأرواحنا من الشرور الصغيرة والكبيرة، وعليه فلا يجب أن تهن العزائم أمام الجوع الجسدي، بل علينا أن نصبر ونثابر ونعتصم في مناسكنا مخافة أن يقودنا الشيطان إلى المكان الذي يريده، فيقضي علينا بالغرق في وحولٍ نجهد عاملين على التخلص من أوساخها، فإذا نحن لزمنا مناسكنا فلا سبيل إلى أشواق الأرض إلينا ولا لخلجات الحس إلى قلوبنا، يجب أن نتجلد أمام عدونا الخطر اللدود ونصبر على الأمور الصغيرة فإنه سيطلب منا ما هو أعظم، فالثبات في الأمور الصغيرة أساس للثبات في الأمور الهامة، فالذي لا يُستـعـبَد للمجرب ولا يجري وراءه خمس خطوات كيف يستطيع أن يخرجه من صحرائه إلى المدينة، والذي لا يقبل أن يطل من نافذة صومعته كيف يستطيع الشيطان أن يخرجه من هيكل طمأنينته، والذي يكتفي باليسير من القوت كيف تستطيع شهوة الطعام الطيب التغلب عليه؟ والذي يصبغ الخجل وجهه لدى مخالفته أصغر الوصايا كيف يقدم على مخالفة الوصايا الكبرى؟ والذي لا يهتم بجمال جسده كيف يهتم بجمال الغير؟ وهل باستطاعة الجمال أن يغريه؟ والذي يحتقر متاع الدنيا ويعتبر الحياة الأرضية محبساً يجب التخلص منه أتخيفه تعذيبات الجسد وقهره ولجم الشهوات وإخراس النزوات؟ هؤلاء من لا يخافون الموت ولا يغتفرون لأنفسهم هفوة يرتكبونها, هم قساة أشداء على نفوسهم وقسوتهم مصهر يصهر خطاياهم.
فعلينا أن نطهر أنفسنا ونعلم ذواتنا حتى نكون إناءً صالحاً للنعمة الإلهية، هذه هي الفلسفة الوحيدة الناجحة في تطبيب أمراضنا الداخلية الروحية، إن الجهلة يفضلون النوم على سرير الراحة الوقتية من التربع في الملكوت السماوي, يفضلون هذا لأنه سهل ومريح، ويبتعدون عن ذاك لأنه يطلب منا قهر ذواتنا، إن الجهلة يفضلون الحياة السهلة على الحياة التي تكثر فيها المصاعب والمشقات، لأن هذه في متناول يدهم، أما تلك فصعبة ولكن النهاية فيها الحياة السعيدة.
لقد قال باسيليوس الإلهي: من كان كسولاً في الأمور الصغيرة فلا تثق به في الأمور الهامة، فلا تخف أيها الإنسان ولا تجزع, فالجزع صغار في النفس والإهمال أب الخطايا، إن الجبان مصاب بمرضين مرض الجسد وقلة الإيمان، ومحبة الجسد إذا دلت على شيء فإنما تدل على قلة الإيمان، والمحتقر للجسد مؤمن بالحياة الأخرى وبالله، إن الإيمان هو في القلب ومظاهره تواضع هذا القلب, والمؤمن لا يدين الآخرين، فإذا كان قلبنا لا يدين الغير فلنا ثقة بالله وبأحكامه، إن الذي يشتغل للجسد يكون فانياً، أما الذي يحتقره فهو الإنسان الحقيقي, فالذي يصوم وينسك هو مؤمن يحتقر الجسد وشهواته ويحب الله، ولذته التمتع بكلامه الإلهي.
يصوم الإنسان وينسك، وفي صيامه مجد له وقوة للفضيلة ومجال لأنهر الله الإلهية لتجري في داخله، ومن صام ونسك حوى الله وعمل صامتاً، والفضيلة أن تعمل للملكوت السماوي وتجعل هذا الملكوت عالماً داخلياً فيك.
ترجمة المطران الياس (معوّض)
عن “مجلة النور”، العدد 3، 1951