الإخوة والأبناء الأحباء،
قال الرب لتلاميذه: “كما أرسلني الآب هكذا أنا أرسلكم”. وقال لهم قبل صعوده الى السماوات: “إذهبوا الى جميع الأمم وتلمذوهم معمدين إياهم باسم الأب والإبن والروح القدس، وعلموهم جميع ما أوصيتكم به، وها أنذا معكم الى إنقضاء الدهر”.
هذه الكلمات تدلنا على عمل عظيم أوكل الى الكنيسة لاصطياد الأمم بصنارة النعمة والكلمة الطيبة والتصرّف الصالح.
وبالرغم من أن الرسل الأثني عشر ظاهرة لا تتكرَّر كأشخاص، ولكن كمهمة يمكن لأي إنسان أن يماثلهم. فالرسولية كمهمّة ليست حكراً على زمن أو شخص، ولهذا فكل أسقف هو ثالث عشر الرسل القديسين، وعندما نعيّد لبعض المعادلي الرسل، أو المعادلات للرسل ندعوهم بالمعادلي الرسل كالقديسة تقلا، والقديسة مريم المجدليّة، والملكين قسطنطين وهيلانة، والقديسة أولغا. لا نقول عنهم رسل بل معادلي الرسل أي قد قاموا بالمهمة الرسوليّة خير قيام بحسب الظروف والمكانات التي أعطيت وتوفرت لهم.
وبحسب وصية الرب الواردة أعلاه اعتبر المؤمنون ذواتهم جميعاً انهم مسؤولون عن البشارة. وكانوا يرشدون الناس الى ما هم عليه ليصيروا مثلهم بالسلام والفرح والإطمئنان، وإذا ما استطاعوا جذب إنسان الى الرب يسوع كانوا يقدمونه الى الكنيسة، والكنيسة بعد ذلك تفحص دقة إيمانه، وصلابة موقفه، وتفاصيل أخلاقياته. وبعد ذلك يصار الى عماده بعد مرحلة من التعليم. إذاً للعلماني دور مهم في العملية الرسولية للتبشير بالإنجيل.
الرسولية تتطلّب حياة. في أعمال الرسل واضح جداً أن من يريد أن يتسلَّم مهمة في الكنيسة يجب ان يكون مشهوداً له بالأخلاق الحميدة، وليس بالأخلاق الحميدة بل وبالقداسة أيضاً ممتلئاً من الروح القدس.
وبما أن الرسوليّة تقتضي العلم والمعرفة الكاملين على قدر الإمكان فقد وصى الرسول بولص أن من يتسلَّم هذه المهمّة يجب أن يكون قد ربّى عائلة حسناً. غير ضِرّيب، ومن ذوي الأخلاق المشهود لها. لأنه بالحقيقة الإنسان ينتظر ممن يحملون كلمة الله الصدق في الحياة لما يطابق ما يقولونه وذلك كيلا يسمعوا ما ورد في الكتاب: “أيها الطبيب طبب نفسك”. وكيلا يسمعوا ما ورد على لسان الرب في توجهه نحو الفريسيين: “الويل لكم أيها الفريسيون المراؤون…” أي الذين تتصرّفون عكس ما تعلِّمون.
الكنيسة الأولى كانت بأكملها جماعة مرسلة الى ذاتها أولاً، وثانياً الى العالم. أي بعد أن تصبح هي المثال والقدوة ولا تؤخذ بالمثالب بحسب أعمال أعضائها كي لا يصدق فيهم القول: “بسببكم يجدّف على الروح القدس”، تتوجه نحو تعليم الأمم. بدقة الحياة المسيحية الكاملة إستطاع المسيحيون الأوائل برغم الإضطهادات المتنوعة والضيقات المختلفة أن يجذبوا الأمم الى كلمة الحق. وبرغم هجوم الهرطقات عليهم من كل جهة أعلنوا إنتصارهم ولا زالوا يعلنون.
الرسلولية مهمة لا يمكن أن يتنازل عنها أي مؤمن لأنه سيسمع من الرسول بولص “الويل لي إن لم أبشر”.
وقد لا يستطيع الإنسان التبشير من مجتمع الى آخر، ولكن هذا لا يمنعه من أن يكون السهم المستنير الذي يدل على المسيح. ولا يمنعه من أن يكون النقاط العلّام على طريق الفضيلة لأنه عند ذلك سيقول مع الرسول بولص: “لست أحيا أنا بل المسيح يحيا فيّ”.
تتوجب التهيئة للرسولية. فالرسوليّة بدون معرفة قد لا تعطي الطريق الصحيح. قد يصبح الإنسان قديساً، ولكن لا يمكنه أن يكون رسولاً أو معلماً بل ويحتاج للتعليم. ورد في بستان الرهبان القصة التالية: كان من عادة البطريرك في الإسكندريّة أن يرسل أحد المدبرين ليتفقد شؤون النساك والأديار، ووصل وقت القداس الإلهي الى أحد الأديار، وكان الكاهن الذي يخدم القداس على درجة من القداسة، ويقف عن يمينه في الخدمة ملاك، ولكن الكاهن كان يخطئ ببعض التعابير، وبعد إنتهاء القداس أراد المدبِّر أن يصلح له أخطاءه، ولكن الكاهن قال له: لماذا لا يصلح لي الملاك ذلك إذا كان خطأً. فقال له الملاك مباشرة: إذ حضر معهما، نحن لا نتدخل حيث يستطيع البشر أخذ المبادرة.
والمؤمنون الأوائل كانوا مداومين على مطالعة الكتب المقدّسة القادرة أن تصيّرَهم حكماء للخلاص، وقد اشتروا الكتب بأثمان باهظة. وعلموا أولادهم الكلمة الإلهية. وطالما أنهم معنا يشكلون الجسد السري الذي رأسه المسيح فلماذا لم نعد رسلاً لله عند ذواتنا أولاً، نعيش حياتنا كما ترضيه، وبحسب ما يشاء، لأن الإنسان كلما تقدم في الحياة مع المسيح كلما اضطرمت نار الأشواق إليه في داخله وازداد يقيناً بما يؤمن.
وأهم رسالة يؤديها الإنسان لارساليته المسيحيّة أن يكون القدوة، فهل نحن القدوة في المجتمع ليستضيء الناس بنا الى المسيح، أم صرنا بحاجة لرسل يعلموننا من جديد إيماننا المسيحي وسبله. من منا يخصص بعضاً من المال الذي يصرفه على توافه الأمور لكي يشتري كتباً تعمّق معرفته بالله وبكلمته وبالحياة معه. نعم نحن مطالبون أن نكون رسلاً أيضاً الى الأمم وخاصة الى الذين من حولنا ويسألوننا عن الرجاء الذي فينا. هل ثبتنا وجوهنا نحو السيد؟ سيتبعنا العالم. أم ثبتنا وجوهنا وإرادتنا الى العالم فنتوجه الى غير رجائنا الى خسراننا وضياعنا.
موضوعي اليوم أيها الإخوة الأحباء، يقصد بما ورد فيه أن تطرحوا الخوف خارجاً، لأن الرسوليّة التي هي واجب في أعناقنا ومن صلب عطايا معموديتنا، تحتاج لشجاعة أبناء الإيمان في وجه وقاحة أبناء هذا الدهر. وبدون الشجاعة لن نتمكن من أن نكون رسلاً حتى، ولا الى ذواتنا، ولا الى عائلاتنا، ناهيك عن المجتمعات المحيطة بنا والبعيدة.
أسأل الله أن ينير الأذهان لتتقوى الأبدان فنعمل إرادته ونبشر باسمه في كلِّ حين، آمين.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، السنة 14، العدد 39، الأحد 27/9/2015