شاب غني يسأل يسوع: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية، والسيد يجيب: لتدخل ملكوت السموات، لك ان تحفظ الوصايا، وعدَّد له بعضًا منها. فقال الشاب: هذه أتممتُها منذ صباي، وكأنه يبحث عن شيء آخر ليدخل إلى ملكوت ربّه هذا الذي جاء المعلّم الجديد ليعلنه في الجليل والسامرة وإلى أقاصي الأرض. إذ ذاك أجابه يسوع: واحدة تُعوزك: أن تبيع كل ما لديك وتعطيه للمساكين ثم تعال واتبعني.
ما معنى هذا القول: بع كل ما لك وأَعطه للمساكين؟ هل يعني انه على الأغنياء أن يبيعوا بيوتهم وأملاكهم؟ ماذا يعني هذا الكلام؟ يسوع لم يُساير أحدا. صدع الشاب الغني بقوله انه عسير على الأغنياء أن يدخلوا ملكوت الله. ثم تابع بشدة: «انه لأسهل أن يدخل الجمَل في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت الله». وضعنا السيد أمام صعوبة كبرى لا نستطيع ان نُهوّنها. الإنجيل ليس هيّنًا ولكنه صعب، وعلينا نحن ان نقتحم الصعوبة وان نفهم كيف نستطيع ان نخلُص بالرغم من الصعوبة.
الإبرة تعني الإبرة ولا تعني شيئا آخر. ولهذا بادر السيد بالتشبيه وقال ان الجَمَل – ويمكن أن نقرأها الجمّل أي الحبل الغليظ الذي يشدّون به السفن- لا يدخل في ثقب الإبرة. مهما فسّرناها ومهما قرأناها باليونانية أو بالعربية، فإنها تعني بأقل تعبير الصعوبة الكبرى التي للأغنياء ان يدخلوا إلى ملكوت الله.
ماذا نفعل إذًا؟ لقد قال الله على لسان داود: «بدَّدَ، أعطى المساكين، فيدوم برّه إلى الأبد» (مزمور ١١١: ٩)، أي انك لا تستطيع ان تبقى غنيّا بلا مشاركة. القصد الأول للسيد هو ان نجعل الناس شركاء في المال الذي نحن وكلاء عليه. المسيحية أعطت تفسيرًا واضحًا لهذا على لسان آبائها عندما قالت ان المال الذي لديك هو أصلًا لكل الناس، «للرب الأرض بكمالها، الدنيا وكل الساكنين فيها» (مزمور ٢٣: ١). والمال الذي لديك أنت فُوّضت لإدارته من أجل الناس ومن أجل مصلحتهم. ولكن لا تحتكره من أجل الترف والبذخ، فهذا مرفوض لأنك بالترف لا تستطيع ان تجعل الناس شركاء لك.
هذا يعني بأقل تعبير أن الغنيّ من حيث المأكل والأثاث والمظهر يعيش كبقية الناس، لا يتمتّع بالدنيا أكثر من سواه، ولا يتمتّع بصورة تؤذي الفقير. بالأقل إذن لا نجرحنّ الفقير بمظاهر مُترَفة، بالأقلّ لا نعيشنّ بصورة فاحشة. يمكنك ان تملك، ولكن لا يمكنك ان تستمتع، ان تتمتّع بما يفوق التصوّر. في المجتمع الذي تعيش فيه، لك أن تُشارك الناس الذين حولك بالعطاء الجسيم.
يوصي العهد القديم المؤمن بأن يُعطي عُشْرَ أرباحه للفقراء. هذا لم يبقَ أمرًا في العهد الجديد. في الكنيسة ليس العطاء رقمًا مُعيّنا لا لنُخفف ما فُرض على العبرانيين بل لنزيد عليه. وليس صحيحًا انه يُفرض على كلّ نفس ما تشتهي أن يُفرض عليها.
لذلك كانت القضية أمرًا، أمرًا نهائيًا لا نصيحة. كانت أمرًا إلهيًا لكي نشعر بأن الآخرين شركاؤنا في ميراث الله وبأنهم واحد معنا. لذلك تعال وافتح جيبك وافتح قلبك وأَعط وبدِّد ووزِّع وأَحبِب البشرية التي تعطيها، وأَحبب الناس الذين تمدُّهم بالعطاء. لا تُمنّن أحدًا بل اعتبر ان الفقير سيّد عليك لأنه أعطاك فرصة لكي تعطي. وإذا أنت مشيت هكذا على دروب العطاء الكبير الواسع، إذا أنت أَعطيت وبدَّدت، فلا تعتبر نفسك شيئًا ولكن ارتجف لأن الله قال انه عسير على الأغنياء دخول ملكوت الله.
جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
عن “رعيّتي”، العدد 48، الأحد ٢٧ تشرين الثاني ٢٠١٦