ارتجّتْ روحُ امرأةِ الجحيم… صرخَتْ… ما هناك؟!… قامَتْ وطفرَتْ سيّدةُ العتماتِ من حجرِها إذ تزلزلتِ الأرضُ فيها وحولَها… اهتزَّ كيانُ روحِها… خافَتْ… مَن هناك؟!…
من يأتيني في ليلِ ظلمتي وأنا أتعذَّبُ مع ابنتي في صمتي هذا الّذي يقربني كلَّ يومٍ لجرّي إلى العدمِ، إلى الموتِ وفلذةُ كبدي وعذابي تصرخُ فيَّ وفيه… تصيحُ بأنينٍ مسحوقٍ، مكتومٍ، غاضبٍ، لتبصقَ فيه عذابَها عليَّ، أنا أمَّها… شريكتَها في جحيمِها الأعمى الأخرسِ الّذي لا نُطْقَ فيه، بل عويلٌ وزعيقٌ وأنينٌ وحرطُ أسنانٍ وتكسيرُ كلِّ ما تلقي يدَها عليه وتجريحُ وجهِها وتخديشُهِ بأظافرِها…
هكذا مرَّ زمانُ شبابِها وأربعينِها، وهي تُسائلُ أمَّها مرّةً ومرّاتٍ… ماذا يريدُ هذا الرّوحُ الشّيطانيُّ القاتولُ الغريبُ منها هي؟!…
لم تكنْ تدركُ ذاتَها… لم تعرفْ أناها…
ماذا يريدُ منّي؟!… وصمتَتْ أمُّها… أن يبتلعَني؟!… أن يعذِّبَني هكذا؟!… يمزِّقَ روحي… حسّي وكياني… قلبي وعقلي وجسدي؟!…
عيلَ صبري… وسقطَتِ الابنةُ وكأنّها ميتةٌ تبكي…
وانتفضَتِ المرأةُ الأمُّ… أعولَتْ بأعلى صراخِ حنجرتِها إلى آلهتِها…
وارتدّتْ بملءِ عنفِ يأسِها إليهم!!… هؤلاء لا سماعَ في آذانِهم ولا صوتَ في حلوقِهم!!. بل يصمتون ويصمتون متمتّعين بعذابي أنا وابنتي… لا حسَّ في حشاهم!!.
خبطَتْ كيانَها على الأرضِ قربَ وحيدتِها وزعقَتْ: … “آلهتي حقيرةٌ، دنسةٌ مثلي… وإذ آتيها في كربتي تبتلعُني بصمتِها… تُبعدُني عن حرقتي، عن روحي، عن بحثي في ذاتي، عن حقيقتي، عن طلبتي، كيف جُنَّتِ ابنتي؟!… كيف اختطفَها الشّرّيرُ القاتولُ الشّيطانُ الأبُ الأنجسُ من كلِّ وحوشِ الأرضِ الّذين امتلكوها، فاقتناها مُفْسِدَها… سرقَها منّي وتركَها ميتةً لا حياةَ ولا حراكَ فيها إلاّ الصّراخَ واللّعناتِ… وحين انهدَّتْ قاتَلَها مرضُ الموتِ الّذي هو أقبحُ من الموتِ الحقيقيِّ… زجَّها في اللّاحقيقةِ، في البعدِ عن الحياةِ، عن القيامِ إلى الصّحةِ، إلى النّورِ!!”…
وأنا أمَّها… ما زلتُ أبكيها… أنوحُ متمتمةً، ومن ثمّ غاضبةً… أنامُ في عتماتِ شكّي شاكيةً… وأنا أُسائلُ… أين إلهي ليأتيَني في جحيمِ ضياعِ ابنتي؟!… يأتيني إلى كوني الّذي يتفتَّتُ حولي وفيَّ ليجرَّني إلى عتماتِ وليدةِ جسدي…
وصار سماعٌ في كلِّ أرضِ وزوايا اليهوديّةِ وأورشليمَ… “خرجَ يسوعُ إلى نواحي صورَ وصيدا”… وخرجَتِ المرأةُ الكنعانيّةُ من تخومِها تستقبلُهُ… نظرَتْهُ والّذين معه بحرقةِ اختناقٍ وعنفِ غضبٍ، “وصرخَتْ إليه قائلةً: ارحمْني يا ربُّ، يا ابنَ داودَ فإنّ ابنتي بها شيطانٌ يعذِّبُها جدًا… فلم يجبْها بكلمةٍ”…
لم يقلْ لها… سمعْتُ صراخَكِ يا امرأةُ… شهِدْتُ تناطحَكِ مع آلهتِكِ العجمِ ورفضَكِ لها بعد عذاباتٍ قاسيةٍ ويأسٍ فتَّتَ روحَكِ وطاقتَكِ على الاستمرارِ في البحثِ عنّي…
هكذا تركَ الرّبُّ يسوعُ امرأةَ السّقوطِ وابنتَها الّتي أسلمَتْ نفسَها للشّيطانِ في معيشتِها بعيدةً عن أمِّها، وكانت أمُّها، تلكَ المرأةُ الكنعانيّةُ الّتي عبدَتْ آلهةً غيرَ الإلهِ يهوه، تتنصّتُ مستتبعةً حركةَ الحياةِ فيها ووعيَها التّضادَ والتّناقضَ والتّناضحَ بين روحِها وكيانِها ومصيرِها بابنتِها… وصارَتْ بذاكَ الألمِ المخفيِّ فيها، الّذي لم تكشفْهُ لشعبِها، بل كانت قد تركَتْ بالكليّةِ موقعَها في شعبِها وعند قومِها وانصبَّتْ على عتماتِ ألمِها لتخلِّصَ وحيدَتَها… وعاشَتْ معها، فيها، حاملةً نتنَها على نفسِها… وسعَتْ وحيدةً لأنْ تنظِّفَ مواعينَ خوابي زيتِها، لأنّها أحسّتْ منذ طفوليّتِها، أنّها كانت وحيدةً وغريبةً عن قومِها!!… ثمّ أرسلَ الله لها ذاك الواقعَ في ابنتِها فأحسّتْ أنّها صارَتْ وحدَها المختارةَ لحملِ سقوطِ نسوةِ شعبِها فلم تنبسْ ببنتِ شفةٍ رافضةً… ما كانتْ تجرؤُ، لأنّها كانت تعي وتدركُ عظمةَ سرِّ الإلهِ فيها!!… فصمتَتْ!!…
وها اليومَ تكمَّلَتْ أيّامُها مع وفي عذاباتِ ومرضِ وموتِ ابنتِها، فانتظرَتْ إلهَ يعقوبَ… أتاها وصحبَهُ ليعلِّمَهم ويعرِّفَهم والبشريّةَ حدودَ جهلِهم أمام واقعِ الارتدادِ… والوجعِ والتّوبةِ!!. فكانتْ هذه اللّقيا!!!…
كان قرفٌ وخوفٌ واشمئزازٌ وحكمٌ من تلاميذِ يسوعَ على امرأةِ السّقوطِ تلكَ!!. على الكنعانيّةِ وجنسِها واستغرابٌ وتسآلٌ: لماذا أتى بهم المعلّمُ إلى تلكَ النّواحي من أرضِ إسرائيلَ؟!…
وصرخوا: “اصرفْها… إنّها تصيحُ في إثرِنا”… هكذا حكموا عليها ولم يجبْهم طلبَهم بل قال: “لم أُرسلْ إلاّ إلى الخرافِ الضّالةِ من بيتِ إسرائيلَ”…
همُّه كان المواجهةَ مع امرأةِ الآلهةِ العُجْمِ الخرساءِ، مع الوثنيّةِ والأوثانِ الّتي تعبدُها غالبيّةُ أهلِ الأرضِ وهم يدّعون مثلَ التّلاميذِ أنّهم يعرفون ويعبدون الإلهَ الحيَ، بل هم كلُّهم من سلالةِ أهلِ الخلاصِ… وأنّهم كلَّهم من الخاصّةِ… من أهلِ البيتِ…
هكذا بدأَ الاختيارُ والمواجهةُ الإلهيّان بين العهدِ القديمِ والعهدِ الجديدِ في شخصِ يسوعَ، والحوارُ مع الكنعانيّةِ…
نَهَرَها الرّبُّ ولم يستجبْ لها رغمَ معرفتِها به، أنّه هو الرّبُّ الّذي من سلالةِ داودَ… ولم يُجبْها لأنّه هو لا يستجيبُ للعقلِ الآتيهِ بمعرفةِ سلالتِهِ… نطقَتِ الكنعانيّةُ بمعرفتِها به، ثمَّ طرحَتْ وجعَها العظيمَ أمامَه… “ابنتي بها شيطانُ يعذِّبُها جدًا”… وكان هو ينتظرُ… صبرَها… صمتَها… لجاجتَها السّاكنةَ المتحرّقةَ لشفاءِ ابنتِها… وكان بالأكثرِ يراقبُ ردّةَ فعلِ تلامذتِهِ المحيطين به والمتذمّرين من أنّه أتى بهم إلى تلك التّخومِ الدّنسةِ وإلى الامرأةِ الأدنسِ من كلِّ أهلِ الأرضِ، فما به معلّمُنا وماذا سيفعلُ؟!…
“لم أُرسلْ إلاّ إلى الخرافِ الضّالةِ من بيتِ إسرائيلَ”…
أبعدَ عنها الانتماءَ لبيتِ إسرائيلَ، ثم ضمَّها إلى ذلك البيتِ لأنّه هو أتى ليخلِّصَ ما قد هلكَ في شعبِهِ والعالمِ…
لن يهلكَ إنسانٌ مريضٌ، بل سيُشفى ويتعافى، إن سلكَ بما سلكتْ به هذه المرأةُ الكنعانيّةُ…
أتَتْ إليه… اقتربَتْ منه، وهي المرأةُ العابدةُ الأوثانِ والملوّثةُ بشيطانِ ابنتِها وسجدَتْ للعزّةِ الإلهيّةِ!!. له…
صرختْ بصمتِ حميمِ وجعِ سؤْلِها: “أغثني يا ربُّ!!”…
كان الرّبُّ عارفَها، تلكَ المرأةَ اللاّبسةَ سقوطَ البشريّةِ برمّتِها… وكان يسعى بل يريدُ مترجيًّا خلاصَها وابنتَها… لكن كان عليها أن تدفعَ ثمنَ الشّفاءِ الكليِّ الكاملِ والأكيدِ لوجودِها…
كان عليها إذ اختبأتْ عمرَها كلَّه في وكرِها، أن تخرجَ إليه، هو، إلى رؤيةِ نورِ وجهِهِ، لتمشيَ دربَ النّورِ إليهِ، هو الحياةُ الأبديّةُ!!…
“أغثني يا ربُّ”… ولم تذكرْ ابنتَها هنا… لأنّها كانت في تمخُّضِها بآلامِها تدركُ أنّه، كما الابنُ سرُّ أبيه، كذا الابنةُ سرُّ أمِّها…
كان عليها أن توحِّدَ ذاتَها بكلِّ نساءِ الأرضِ، الأمّهاتِ والبناتِ ليخرجن من سقوطِهنَّ إلى نورِ لبسِ وجهِ وحلّةِ أمِّ الإلهِ، مريمَ العذراءِ…
هنا أتى دورُ تعليمِ يسوعَ لتلاميذِهِ حقيقةَ نفوسِهم الّتي لم يكونوا قد عرفوها بعد ولا حتّى لامسوا كيفيّتَها…
فأجابَ الاستغاثةَ… “ليس حسنًا أن يؤخذَ خبزُ البنينِ ويُلقى للكلابِ”… متى خاطبَ يسوعُ أيَّ إنسانٍ محقّرَهُ هكذا؟!…
هذا ما كان شعبُ إسرائيلَ يؤمنُ به… أنّ كلَّ من هو غيرُ إسرائيليٍّ وفرّيسيٍّ… إلخ… من ليس من الشّعبِ المختارِ… هو أدنى مرتبةً من كلِّ بشريٍّ آخرَ يحيا على أرضِ بلادِهم من الإسرائليّين…
وكانت هذه الطّريقةُ الّتي خاطبَ فيها الرّبُّ الكنعانيّةَ غريبةً على أسماعِنا حتى اليومِ، بل الكثيرون يقولون… “ولو، أهكذا يُسمّي الإلهُ الّذين يأتون إليه حاملين آلامَهم ليشفوا عند يسوعَ؟!”…
الرّبُّ يسوعُ إلهٌ ديّانٌ وعادلٌ… طويلُ الأناةِ وكثيرُ الرّحمةِ… ليس إلى الانقضاءِ يسخطُ ولا إلى الدّهرِ يحقدُ… لا على حسبِ آثامِنا صنعَ معنا ولا بحسبِ خطايانا جازانا… (مز ١٠٢: ٨-١٠).
ونزلَتِ الكنعانيّةُ… انحطَّتْ إلى أسفلِ دركاتِ الأرضِ وقبلَتْ… قبِلَتْ صاغرةً حُكمَ الإلهِ لها هي أمُّ، بل امرأةُ السّقوطِ، ولابنتِها الّتي أذلّتْها في حياتِها وهي الآن تنذلُّ وتتّضعُ ليُثمرَ امتحانُ الاتّضاعِ لها وتخلّصَ ابنتَها بالقبولِ… بالشّفاءِ…
“نعم يا ربُّ فإنّ الكلابَ أيضًا تأكلُ من الفتاتِ الّذي يسقطُ من موائدِ أربابِها”… وكان صوتُ الرّبِّ يجلجلُ صامتًا: “عظيمٌ اتضاعُكِ يا أمرأةُ”…
هكذا أعلنَتْ أنّ الرّبَّ وشعبَهُ هم أربابُها… لكنّ أولئكَ لم يتّضعوا حتّى المذلّةِ والامّحاءِ مثل هذه المرأةِ الغريبةِ الجنسِ الحاملةِ وصمةَ عارِ السّقوطِ عن نفسِها وكلِّ نساءِ البشريّةِ والأرضِ للوصولِ إلى حوّاءَ الأولى رفيقةِ آدمَ… والعودةِ إلى فردوسِ الله…
“أجاب يسوعُ وقالَ لها: يا امرأةُ عظيمٌ إيمانُكِ فليكُنْ لكِ كما أردْتِ… فشُفِيَتِ ابنتُها من تلك السّاعةِ”… خاطبَها بـ”يا امرأةُ”… كما خاطبَ أمَّهُ… “يا امرأةُ لم تأتِ ساعتي بعدُ”…
لم تجرَّ الأمُّ ابنتَها ليضعَ يسوعُ يدَيه عليها ويشفيَها… بل كانت وهي الأمُّ قد أخذتْ على نفسِها جميعَ خطايا وآلامِ ابنتِها، فواجهَتْ هي العزّةَ الإلهيّةَ بتبنّي السّقوطِ كاملاً… وتبنّي طلبِ الشّفاءِ لابنتِها ثانيًا، والانتظارِ بيقينٍ غير متزعزعٍ أنّها ولو طلبَتْ من يسوعَ غيبًا الشّفاءَ، فإنّه سيمنُّهُ عليها وعلى ذريّتِها كلِّها لأنّه هو قالَ: “من آمنَ بي فسيخلصُ هو وكلُّ أهلُ بيتِهِ”… آمين.
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
عن “تأمّلات في الإنجيل”، 14 شباط 2016