أيها الإخوة الأحباء، الانجيل المقدس، إنجيل اليوم يروي لنا إحدى معجزات الرب يسوع. ولكن من أجل فهم أفضل لهذه المعجزة، يجب أن تُسقط على حياة كل منا بشكل فردي وتدرس بشكل شخصي.
ولكي تتحقق المعجزة نفسها بحياتنا لا بد أن نسمح لنعمة الله أن تعمل فينا.
ماذا يقول إذا الأنجيل المقدس؟ يقول: في أورشليم عند باب الغنم ( اي الباب الذي منه كانت تعبر الغنم المزمع أن يُضحى بها في الهيكل)، كان هناك بركة تدعى بيت حسدا لها خمسة اروقة. فيها اجتمع جمهور كبير من المرضى. مياه هذه البركة كانت لها خصائص خارقة. حيث كان ملاك الرب ينزل ويحرك الماء على فترات متباعدة، وهكذا بعد تحريك الماء كانت مياه البركة تأخذ قوة شفائية مؤقة للحظات، والذي كان ينزل من بعد تحريك الماء كان يُشفى من أي مرض أصابه. وهكذا تعود المياه بعد العجيبة إلى حالتها الطبيعية كأي نبع ماء.
هذا الأمر كان يعطي المرضى الأخرين الذين فقدو الأمل بشفائهم على يد الأطباء عزاءً ورجاءً، أن دورهم لا بد أتٍ ليحصلوا هم أيضاً على الشفاء من بعد تحريك الماء، من قبل ملاك الرب. لهذا تجمع حول البركة جمهور كبير من المرضى، من عميان وعرج ويابسي الأعضاء، بشكل دائم يترقبون اليوم الذي فيه سيشفون.
بين هؤلاء كان هناك أنسان مخلع مريض منذ ثمان وثلاثين سنة، لم يكن من يُعينه ويهتم به ويساعده على النزول إلى الماء العجيب ليحصل على الشفاء. هذا كل هذه السنين، كان يرى بأم عينيه الكثير من المرضى ينزلون إلى الماء بعد تحريكه ويشفون من أمراضهم ويعودوا إلى بيوتهم سالمين، هو الوحيد الذي لم يكن بإمكانه الوصول إلى الماء، هو الوحيد الذي كان بلا معين، وهكذا عذابه يستمر ويكبر، وبعد هذا الزمان الطويل ثمان وثلاثين سنة، ومحاولات كثيرة فاشلة للوصول إلى النبع الشافي، يتسائل الواحد منا أي رجاء كان لديه؟ ربما كان قد أخذ قراره أنه لن يتحرك من هناك قبل الشفاء، فإما يموت في موضعه ويلقى في التراب أو يلقى في الماء فينال الشفاء.
كل هذه السنين لم يفقد الأمل، واستمر يغذي نفسه بالرجاء، صبر وكأنه على أمل اللقاء بنبع الشفاء الحقيقي وطبيب المرضى ونبع العطاء.
أخيراً أتت اللحظة التي فيها ستنتهي معاناته، بعد صبرٍ دام أعواماً طويلة، ورجاء لم ينقطع. جاء إليه الطبيب الرحيم، طبيب النفوس والأجساد، جاء إليه المسيح الكلي القدرة والمعطي الحياة. خاطبه بكلمة فقط أعادت له عافيته، نعم نعم إنها عجيبة كبرى، هذا الحي الميت وقف على قدميه، وذاك العاجز على أن يتحرك، دبت فيه الحركة والحياة وحمل سريره الذي كان مضطجعاً عليه.
نعم هذا المقعد المخلع أصبح معلماً لنا في الصبر والرجاء. ثمان وثلاثون سنة لم يفقد الرجاء، لم ييأس، لم يتطاول على الله ويتفوه بكلمة ضد خالقه. نعم بينما الكثير الكثير منا، من لهم سنوات أقل في مرض أو وجع ما، يتجرأون ويتطاولون على الله، بصبره ورجاءه جعل الله يأتي إليه، نعم ليس طبيبا عاديا وإنما الرب نفسه أتى إليه.
هذا المريض، بعد شفائه لم يعد لبيته وإنما ذهب إلى الهيكل ليشكر الله، وليس هذا فقط، بل أصبح بوقاً صادحاً بعجائب الله، أصبح كارزاً بمحبة الرب ورحمته العظمى.
لنقف عن التكلم عن المريض المخلع ولنتحدث عن مخلعي عصرنا الحالي.
أيعقل أن يكون في عصرنا مخّلعون؟
نعم هناك الكثير منهم، ولا أقصد المخلعون جسديا وإنما المخلعون على الخصوص نفسياً، وهؤلاء يجدرُ بنا أن نحزن عليهم أكثر.
ولكن ما هو هذا المرض، الشلل الروحي النفسي؟ يمكننا القول أن هذا المرض أصبح آفة مجتمعنا، كيف لي أن أبدء بالحديث عن هكذا مرض؟ سأقدم بعض الأمثلة.
أولاً: المخلع الذي شفاه الرب كان له ثمان وثلاثين سنة لم يذهب لبيت الرب، ذهب طفلاً صغيراً وبعد شفائه ذهب أيضاً ولكن بشعر أبيض بعد هذه السنين من العجز. لكن هذا المقعد عنده حجته فالأمر ليس بيده، كان مريضا، لم يكن يستطيع المشي ، لم يكن له أحد يساعده، أما المقعدين روحيا ونفسيا في عصرنا هذا، بينما هم أصحاء جسدياً وليس من أمرٍ يُعيق حركتهم، بالرغم من ذلك لهم أربعين وخمسين سنة لم تطأ قدماهم الكنيسة، ذهبوا إليها أطفالاً حين أعتمدوا وسيدخلون إليها مرة أخرى ليُصلى على جثمانهم. إلى الكنيسة لا يذهبون، لكن بكل سرور يذهبون إلى السينما والملاهي الليلية والسهرات. ينسون الله الذي يمنحنا العطايا الكثيرة والصحة ولا يأتون ليقولوا له كلمة شكرٍ. ينسون أن أقدامنا يجب أن تسلك بحسب مشيئة الرب وليس مشيئة الشهوة والشيطان.
أتريدون مثلاً أخرللمشلولين روحياً؟ إليكم هذا المثل، تكلمنا عن الذين شلّلت أقدامهم عن الذهاب الكنيسة والمشاركة في تمجيد الخالق، لكن ماذا عن أولائك الذين شلّلت أياديهم عن العطاء على مثال المعطي الحياة؟ ماذا عن محبي المال والمتنعمين بالأرضيات الذين يسرفون بالبذخ؟ وبيوت الله بحاجة لتُجّمل وأخاهم الفقير ليس له من يقدم له الطعام؟ والأخ الصغير الذي تكلم وأوصى به الرب يسوع، ليس له من يرحمه ويستر عورته ويطعم أولاده؟ هؤلاء عندما يُطلب منهم صدقة لأخيهم يشعرون أن أيديهم شُللت عن العطاء ونفسهم عن الشعور بالضعيف. يشُلهم شيطان حب الفضى، نعم يسهرون طول الليل يقضون وقتهم باللهو ويخجلون من حمل الصليب على صدورهم ورسمه عند مرورهم من أمام بيت الله لأن أيديهم شُلّلت عن تمجيد الخالق ولم تعد تُمد للتسبيح والعطاء وإنما للرشوة وحب المال والتطاول على الأخ الضعيف. نعم لم تعد أيديهم تعمل وصايا الله لكن تعمل الخطيئة !!!!
مثالٌ أخر يا أحبتي على الشللل العصري الذي يُحيق بالكثير منا، أنه شلل اللسان. هذا العضو الذي خلق بأجلى بيانٍ للتواصل مع الأخرين فبواسطته تُعبر عن حبك للخالق والخليقة وتشرحُ عواطفك وما يختلج في صدرك. ولكن إن فتشنا بين ملايين الكلمات التي تقال على السنة أعضاء مجتمعنا، لا نجد جواهر روحية. نادرا ما نسمع حمدا وشكراً وكلاماً معزي للنفوس الضعيفة، وكلام مدحٍ صادق بالأخريين، لكن على الأغلب نجد العكس، لعناتٍ وذماً وكلاماً منمقً أنانياً وعجرفةً ما بعدها عجرفة، وإهاناتٍ للفقير والضعيف واستهزاءً بالمتألم.
أما كلمة الله فنادراً ما تُسمع على ألسنتنا، نعم بتنا بدون محبة للخالق والخليقة بتنا نحاس يطن وصنج يرن وما أحوجنا إلى أناس يلتجأون برجاء وصبر، إلى نبع الشفاء إلى نبع العطاء إلى الرب يسوع.
عسانا نفهم أن الله هو وحده القادر على أن يشفينا من الشلل العصري المحيق بنا، ندعوه أن يرحمنا ويباركنا أجمعين آمين.
قدس الأرشمندريت د. أرسانيوس دحدل
الأرشمندريت د. أرسانيوس دحدل ، راهب متوحد من أخوية دير حمطورة بلبنان، مجاز في الصحافة والإعلام، وفي اللاهوت.
حائز على الدكتورا في اللاهوت من جامعة تسالونيكي ودبلوم بالموسيقى الكنسية البيزنطية. راعي الكاتدرائية المريمية.
الشلل النفسي