الإخوة والأبناء الأحباء،
لن أخوض في كلامي إليكم في حياة ومآثر الأشخاص الذين جابهوا العالم في هذا العالم بطرق أهل العالم، وهذا شيء طبيعي أن يحدث بين أهل العالم المقتبسين أراءهم وأفكارهم من ثقافة المجتمعات الإستهلاكية والماديّة.
سأتوجه إليكم اليوم عن أشخاص عاشوا على هذه الأرض وكأنهم ليسوا من أهل هذه الأرض. هؤلاء قد دعاهم السيد قائلاً لهم وبطرق مختلفة “إتبعوني” فتبعوه وتركوا كل شي ليربحوا الأشياء كلها ويتفوّقوا عليها.
يقول الرب لتلاميذه: “أنتم لستم من العالم أنا اخترتكم من العالم لأنكم لو كنتم من هذا العالم لأحبكم العالم لأن العالم يحب خاصته”.
وخير مثال على نماذج التحدي هم أولاً السيدة العذراء التي قبلت أن تتحدى مجتمعها وتهتف نحو الملاك بكل طيب خاطر وتواضع “ها أنذا أمة للرب” فلم تخشى شيئاً من محيطها ولا مما يمكن أن يهدِّدها به هذا المحيط، لقد تذكرت كلام الرب الى أشعياء النبي: “ها العذراء تحبل وتلد إبناً وتسميه عمانوئيل” وإيماناً بهذا الكلام وثقة بقائله، الله تعالى. تحدَّت حتى الطبيعة البشريّة، وتحرّرت من نواميسها.
تحدى الرسل العالم بأن رفضوا ناموس السبت، وثاروا على المفاهيم الرومانية للعالم والسعادة والسلطة والمال، وعاشوا عكس ما تعوَّد عليه البشر.
تحدوا بالإيمان حتى ذواتهم فنالوا المواهب. لم يهاونوا أهل العالم ولا مفاهيمهم، وشنوها حرباً شعواء على كل الشرور حتى استحقوا القداسة والإستنارة والتأله. لقد نظموا ذاتهم كقادة لجيش النور وانطلق كل واحد منهم الى مكان حدِّد له ليدك معاقل الظلام ومعابد الأوثان، وينشروا النور لمن أعمى الظلام عيونهم وعقولهم. تحدوا ذلك ولم يخافوا فمنهم من إنتصر على الموت بالشهادة، ومنهم من إنتصر عليه بتأييدٍ مباشر من الله، فقاومت الأجساد اللحمية كل أنواع العذاب والنار والحرارة. كلهم كانوا يصرخون الموت بالمسيح ربح لنا. هكذا جهزوا حياتهم أن لا يتركوا مجالاً للخلطة بين بليعال والمسيح، ولا بين الظلمة والنور. إن من يقرأ رسائل بولص الرسول، وكيف يتكلم سيرى ذلك التحدي العظيم بين المؤمن والعالم. لا يخضع له إطلاقاً. لقد شنوا حرباً روحية واستطاعوا هم وخلفاؤهم (الكنيسة) أن يغيِّروا مفاهيم كثيرة وشعوباً غفيرة، وأن يقودوا هذه وتلك الى الحضارة ومن غير أن يرفعوا سيفاً وينشؤوا خلافات ولا إنقسامات بين الأمم.
عاشوا ذلك وهم بأجسادهم التي تماثل أجسادنا وبامكانيات من الممكن أنها كانت أقل من إمكانياتنا، ولكنهم قبلوا التحدي واعتمدوا على الله بلا تشتت ولا فتور بل كانوا حارين جداً كما يوصينا سفر الرؤيا.
من لا يفرح بما يرث من والديه، العرف أن الناس يسعون لإمتلاك ما يأتيهم من إرث، وأن يتمتعوا بما يحصلون عليه من دلال وغنج وعيش رغيد، ولكن القديسون حسبوا كل ذلك كلا شي وخسارة، لأجل المسيح.
القديسة بربارة رفضت القصور ودلال الوالد الغني والمستقبل الأرضي الزاهر، وتحدّت والدها والوالي والعادات والديانة الوثنية. وعبدت الله المثلث الأقانيم ويسوع المسيح المصلوب، واعتبرت مع الرسول بولص أن الله بالصليب قد أخزى اليهود وجهل حكمة اليونانيين.
القديس أنطونيوس الكبير بكلمة واحدة من آيات الإنجيل باع كل ما ورثه عن والديه ووزعه على الفقراء وتبع إشتياقه للرب يسوع الى البريّة الداخلية، وتحدى وهو بجسده البشري كل الطبائع البشرية، وتحدى الأبالسة التي شنت عليه حروباً روحية كثيرة، ولكنه ثبت وصار أباً لعشرات الآلاف من الرهبان ولا زال حتى هذه الساعة.
القديس باسيليوس الكبير. إبن العلم والعلماء والقديسين الأغنياء. كم كان ينتظره من المستقبل الباهر والعظيم في جامعات أثينا، ولكنه آثر أن يعيش مع الرب يسوع رافضاً العالم ومغرياته فصار معلم المسكونة. لقد تحدى الهراطقة جميعاً وصار تعليمه مرشداً لآباء المجمع المسكوني الثاني.
تحدّى الإمبراطور، ومن غير خجل ولا وجل، وكان ذا مرض وأسقام شديدة، يوم سأله وهدّده الوالي أن يخضع لإرادة الإمبراطور فقال له القديس: إن نفيتني فكلنا في أرض غربة. وإن أخذت أموالي فليس عندي غير بعض الكتب. وإن هدّدتني بالعذاب فلن تتمتع إلا بالصفعة الأولى وبعدها أفارق الحياة، فخضع الوالي لإرادته وزاد إحترامه له وأعانه في الأعمال الخيريّة التي كان يخدم بها الفقراء والمرضى والمساكين والغرباء والعراة والجياع. فكم من العالم يحترمونه ويطلبون شفاعته، ويتسمون باسمه، ويؤسسون الرهبنات على أساس تعاليمه ونظمه وكم من الدراسات كتبت حول تعاليمه وحياته وارشاداته.
القديس سمعان العمودي صاحب قطعان الأغنام، ليس أنه ترك قطعان والديه، بل ترك كل سهولة وارتياح في هذا العالم وسلك طريقاً أصعب من طريق الحرب الماديّة، لم يقبل أن يعيش، حتى كما يعيش بقية الرهبان والنساك، بل عاش مرتفعاً عن الأرض مسبحاً الله ليلاً نهاراً فوق ما تسمح له الطبيعة البشريّة، ولكنه هو كان قد صلب ذاته عن العالم، وصلب العالم عنه فهدى الكثيرين من القبائل والأمراء الى الرب يسوع المسيح وجعل البريّة من حوله مكاناً لإنشاد التسابيح لله العالي. لقد صار هو تحدٍ لأعراف العالم ومفاهيمه تقاتل عليه الناس كما لو كانوا يتقاتلون على كنز، ولم يكن يملك شيئاً يغني عن جوع أو ما يقي حرَّ الصيف أو برد الشتاء. هكذا يصبح هؤلاء الناس محطمين لكل المفاهيم البشريّة فيسودون الناس من غير سيف ولا جيش ويغتنون بما قلَّ ودلَّ، ويحبون بلا تكلف، ويوجهون بلا تسلط.
وكذلك عدد لا حصر لهم من الأمراء والملوك والسادة والأغنياء والفقراء والبسطاء تركوا العالم وتبعوا الرب ووجدوا الفرح الذي من السماء فعاشوا بالجسد كأنهم خارج الجسد. وصاروا كأنهم في السماء بالرغم من وجودهم الوقتي على الأرض، واستطاعوا أن يتجاوزوا كل الحدود البشريّة بحسب درجات قداستهم وتألههم. ففعلوا ما أرادوا، ووجِدوا حيث صوبوا هدفهم. وصيروا الأرض سماء.
إذاً أيها الإخوة الأحباء، لنقتدي بشجاعتم ونتمثل عزيمتهم، ولنسلك دروبهم لأنهم كما نحن كانوا هم وكما أخذوا في المعمودية حصلنا عليه نحن لنمجد الله في حياتنا كما مجدوا هم الله في حياتهم، وأظهروا تفوُّقهم على العالم. آمين.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، الصادرة عن كنيسة طرطوس، السنة 14، العدد 35، الأحد 30/8/2015