أحبب الصمت فوق كل شيء لأنه يقربك من الثمار المرجّوة، أنى للسان أن يصف الصمت! قبل كل شيء يجب أن نجبر نفوسنا على الصمت فيولد فينا شيء يقودنا إلى حالة من الصمت مبدعة، فليعطك الرب هذه النعمة لتتذوق الحلاوة النابعة منها، إذا سلكت هذه الطريق فلن أستطيع تصور مقدار النور الذي ستغرفه، لا تتصور أن أرسانيوس العظيم الذي بقي صامتاً لا يكلم أهله وأقاربه الذين جاؤوا ليزوروه فاضطرهم صمته إلى أن يعودوا من حيث أتوا قد فعل ذلك قصداً، كلا بل بحكم العادة التي اكتسبها بالمران، المران يولد لذة في القلب ويعتاد الجسد على التحمل والصبر، دموع كثيرة يسكبها الإنسان في هذه الحياة، وبالرؤية الفائقة يصغر القلب، يصبح طفلاً، وعندما يبتدئ بالصلاة تكون الدموع قد سبقته، عظيم هو الإنسان الذي يربح أعضاءه بالصبر وأعظم من يملك هذه القوة في أعماقه، إنها لعادة ممتازة، لو وضعت منجزات الحياة في كفة ووضع الصمت في كفة أخرى لرجحت كفة الصمت، حكم البشر كثيرة وإرشاداتهم أكثر إلا أن الإنسان الذي يقترب من الصمت يستغني عنها جميعها لأن الصمت قربه من الكمال فصار فوقها، الصمت معين للهدوء، كيف؟
إن أرسانيوس أحب الهدوء فوق كل شيء لذلك تمكن أن يبتعد بالصمت عن كل ما يخدش ويسيء إلى روحه الهادئة حتى في أشد الحالات حراجة، قد يلتقي المرء في الطريق بأهله ومعارفه وقد يجتمع بإخوته في الكنيسة ويصادف إخوته في الأديار، وقد ينجذب بعاطفة بشرية نحوهم فيشعر بضرورة الخروج عن عزلته، كان الصمت معيناً لأرسانيوس لتخطي كل هذه الحواجز وللتغلب عليها، وكان صمته المطبق يبعد عنه كل الانزعاجات وإذا صدف أن فتح أحد باب غرفته فصمته كان يجيب عن كل الأسئلة التي دفعت بهذا الزائر ليفتح بابه فكان يعود ونفسه مليئة بسحر الصمت المنسكب فوق تلك الملامح الهادئة المطمئنة. آباء كثيرون قادتهم رؤية المغبوط أرسانيوس إلى نمو ثروتهم الروحية وصمت نفوسهم، وزادتهم معرفة أصيلة، وآباء كثيرون كانوا يقيدون بالحبال أجسادهم إلى الصخور ويفرضون الجوع عليها حتى يقيدهم الجوع فلا يخرجون إذا ما تحركت رغبة الخروج الجامحة في نفوسهم، الجوع يساعد كثيراً على تقلص امتداد الحواس، آباء آخرون كسبوا بترويض إرادتهم وكبح جماح عواطفهم أكثر بكثير مما كسبوه بنتيجة أعمالهم ، السيطرة على الحواس تقود إلى تنظيم الأفكار واتساقها، هناك أسباب كثيرة خارجية تجعل الإنسان يخرج خارج حدود حريته، فإذا لم يكن المرء قد هيأ حواسه وسيطر عليها بالمران المسبق وفي مدى طويل فمن الصعب جداً أن يجد اطمئنانه أو أن يعود إلى الحالة التي كان فيها قبلاً.
نجاح القلب هذيذه في رجائه، ونجاح الحياة تحلل من كل شيء، ذكرى الموت رباط صالح للأعضاء الخارجية، الفرح الذي يجذب النفس هو الفرح المزهر في القلب بالرجاء، تنمو المعرفة بالتجارب المزدوجة التي يصادفها العقل، كثيراً ما يطرق الإهمال عالم حيويتنا الروحي، يحدث ذلك تدبيراً حباً بنا لازدياد صراعنا في عالمنا الداخلي، لازدياد في النمو الروحي ودفعاً لإصابتنا بالغرور، رجاء الرجاء يفوق كلمة الإيمان التي نملكها في قلوبنا.
حسناً قال أحد المتوشحين بالله: إن الشوق الإلهي يكفي ليكون رجاء للمؤمنين الذين تقلقلوا في إيمانهم.
هذا ما أوصيك به أيها الأخ فليكن الغالب فيك مقياس الرحمة الإلهية التي غمر الله بها العالم، لا أدري إذا كان النوم الأبدي سيزورني في هذه الليلة بدلاً من النوم العابر، ما دامت لك عينان فاملأهما بالدموع قبل أن يطمرهما الغبار، ما دامت لك قدمان فاجرِ وراء العمل قبل أن يقيدك الرباط الذي لا ينحل، ما دامت لك أنامل فطوق جسدك بالصليب، واتلُ صلاتك وأفق صالباً لذاتك، كما أن الورد يذبل تحت عاصف الريح كذلك يموت أحد أعضائك في داخلك، يكون الله في قلبك ما دمت تسمع صوته يقول لك: انظر الرسول الآتي ورائي إلى الباب، لماذا أجلس؟ الرحيل رحيل أبدي لا يعرف العودة.
من أحب أن يكلم الله فليصر متوحداً ومن أحب أن يعيش مع الآخرين فقد صادق العالم، إذا أحببت التوبة فأحبب الهدوء، لا تتحقق التوبة خارج الهدوء وإذا اعترض على ذلك معترض فلا تجادله، الهدوء هو أم لكل توبة، إذا أحببت الهدوء فأحبب خسارة الجسد والاتهامات والمحن التي تلاقيها، بدون هذا الارتفاع لا يمكن أن تعيش بحرية، فاحتقار الجسد وما ينبع عنه يجعلك مالكاً للهدوء وتحقق إرادة الله، الشوق إلى الهدوء حنين دائم للموت، من ينشد الهدوء قبل تطبيق هذا الدرس لا يمكن أن يحوز على الصبر وأن يتحمل ما هو مفروض علينا.
اعرف أيضاً يا صاحب التمييز أن الحصول على الهدوء والانطواء الذاتي لا تحققهما القوانين بل السكنى في الوحدة والانفراد، العالم يثير في القلب الرغبات الكثيرة لذلك كان الابتعاد عنه ضرورياً لتحقيق الاطمئنان النفسي، لو كان الأمر عكس ذلك لما حمل الآباء حملتهم على المجتمع البشري ولما سكنوا في القبور وسجنوا ذواتهم في المناسك ولما اختاروا الأديار النائية فهزل منهم الجسد وتركوه ضعيفاً عاجزاً عن تحقيق رغباته، لو كانت الأمور كذلك لما احتمل المتوحدون عاهاتهم بلذة طوال حياتهم ومنهم الكسيح والأبكم وقد اعتاضوا بالهدوء والصمت عن كل ما يثير اللذة في الروح، لذة روحية أن ترنم المزامير الروحية وأن تسمعها في صوت جميل وفوق اللذة أن تسمعها في صمتك وهدوئك بعيداً عن كل تذمر، الصمت والهدوء يحولان سجن غرفتك إلى سماء مفتوحة لأناشيد السماء على ألسنة الملائكة.
من كان موطنه بين الجماعة فأقام بصلاته الموتى هو دون أولئك الذين يشعرون شعوراً عميقاً بخطاياهم، أولئك الذين يفيدون العالم بنظريتهم هم دون الذين يتنهدون ساعة واحدة من أجل نفوسهم، أولئك الذين أهّـلوا ليروا نفوسهم هم فوق أولئك الذين يشاهدون الملائكة، من تبع المسيح بحزن توحدي يفضل من مجّد نفسه وامتدحها أمام الناس، لا يدخل كلام بولس عن نفسه في هذا المجال ” أود أن أكون مبسولاً عن المسيح من أجل إخوتي” (رومية 9: 3) إن الروح يتكلم في بولس ومن الروح يستقي لأجل بشارة الإنسان، من كانت له قوة بولس الروحية يمكنه أن يتكلم ما يتكلمه بولس، كان بولس يتكلم خدمة ورحمة بالناس، إنه لا يفعل ذلك بإرادته بل بالضرورة ” إن ذلك ضرورة مفروضة علي والويل لي إن لم أبشر” (1 كور 9: 16) هدف بولس التبشير لا إظهار اختياره وتوبته.
لنحبن أيها الإخوة الهدوء حتى يموت العالم في قلبنا، ولنهذ بالموت دائماً فالهذيذ الدائم يشعرنا بوجود الله في أعماقنا ويجعلنا نحتقر أباطيل العالم، ونحتمل بلذة كل شيء ونستأهل الكشف الرباني الممجد مع أولئك الذين يحنون إليه ويشتاقون في كهوفهم الأرضية، فله ولأبيه ولروح قدسه المجد والشرف والقدرة والعظمة إلى جيل الأجيال آمين.
تعريب المطران الياس (معوض)
عن “مجلة النور”، العدد 7 ، السنة 21، أيلول 1965، صفحة 195.