القديس أنطونيوس (250-356) هو أحد أكبر معلمي الحياة الروحية في المسيحية الشرقية، وقد تمتّع بأعلى درجات الاحترام لدى مسيحيي الشرق منذ زمانه حتى الحاضر. أحد أبرز محبّيه كان القديس أثناسيوس الذي عرفه شخصياً وكتب سيرته التي هي أهمّ مصادر ما نعرف عنه.من محبيه البارزين أيضاً القديس مكاريوس مطران كورنثوس (1731-1805) والقديس نيقوديموسالأثوسي (1748-1809) اللذين أدرجا في مطلع الفيلوكاليا، التي جمعاها ونقحاها وطبعاها سنة 1782، عملاً يحتوي الكثير من الأقوال والملاحظات التي نُسبَت إلى القديس أنطونيوس.
بالرغم من أنه كان أميّاً، صار القديس أنطونيوس رجلاً ذا حكمة وفهم روحيين مميّزين، قادراً على تعليم الآخرين بكلمة الفم في ما يتعلّق بخليقة الله وتدبيره ونعمته، وفي ما يختصّ بالطبيعة والمصير البشريين، والسبل التي تؤدّي بالإنسان إلى الكمال الشخصي والخلاص. أجزاء من تعليمه، بما فيها تلك التي يحويها العمل المذكور أعلاه، سجّلها آخرون ممن استمعوا إليه وتأثروا بقيمته وذلك للتذكير بشخصية الناس والحياة الفاضلة.الكثير من الأفكار المميزة محتواة في مجموعة الأقوال هذه. إحدى هذه الأفكار هي “الإنسان العقلاني“. قد قيل الكثير عن هذا الموضوع بشكل مبعثر وليس في جزء محدد منفصل. وإذ أتمنّى أن أقدّم تعليم القديس أنطونيوس حول هذا الموضوع بشكل دقيق ومعبّر قدر الإمكان، فقد ترجمتُ المقاطع المعنيّة عن النص اليوناني الموجود في الفيلوكاليا، وجمعتها بنفس التسلسل الذي يظهر في هذا العمل، وقدّمتها كما يلي مع بعض الملاحظات التفسيرية.
الإنسان العقلاني عند القديس أنطونيوس ليس المتعلّم ولا الباحث، ولا المفكّر المجادل أو المتأمل. إنه الإنسان المتمحور حول الله، الذي يوجّه كلّ فكره وطموحه نحو الله، الذي تحوّل بشكل قاطع عن الأرضي والمؤقّت نحو السماوي والأبدي؛ الذي يختار الصلاح ويعمله ويتلافى الشر، أو أقلّه يسعى بشكل واعٍ إلى ذلك. إنه الرجل الذي غيّر داخله بشكل جذري.
المَلَكة العقلانية بالنسبة للقديس أنطونيوس أي الصفة المميّزة للإنسان، هي ما يفرّقه عن البهائم ويجعله قريباً من الله ويوحده به. يفهم هذه المَلَكة على أنها قبل كل شيء قوة فهم القيَم، تمييز الخير عن الشر، تنظيم حياة الإنسان الداخلية والخارجية، مع الرغبة في اكتساب أو صنع ما هو صالح وتجنّب أو تخطي الشر، والتأمّل بالله. بتعبير آخر، إن مهمة العقل التي تُعتَبَر مهمّة ليست التحزرية بل الأخلاقية، ولا الخطابية بل البديهية و التأملية.
تحضر هذه المَلَكة بحسب قديسنا في أغلب الناس بحالة كامنة غير ناشطة، ميتة كأخلاقية وقوة تأملية. الناس، بدلاً من أن يحكمهم العقل، تسيطر عليهم الرغبات غير العقلانية، وبدلاً من أن يكون اتجاههم، كما ينبغي أن يكونوا، إلى الأبدي والإلهي، فهم غارقون في الوقتي والمادي. إن نفوسهم في حالة من الظلام مجردةً من النور الإلهي. هذا يتبعه أنهم ، بالمعنى الدقيق للكلمة، ليسوا بشراً. وحده الإنسان العقلاني، صاحب الملَكة العقلانية الناشطة العاملة هو إنسان بالمعنى الدقيق للكلمة.
واضح أن الإنسان العقلاني عند القديس أنطونيوس ليس إلا إنسان الرسول بولس الجديد (روما 2:12)، أي المتصوّف المسيحي، القديس، أو مَن هو على الطريق ليكون كذلك.
قد يبدو تعليم القديس أنطونيوس غريباً بالنسبة للكثيرين من المسيحيين غير الأرثوذكسيين لأن المسيحية الغربية مالت إلى نفي العقل من الحياة الروحية أو أقلّه إلى تقليص دوره. من جهة أخرى، الأرثوذكسيون المتآلفون مع تقليدهم الطويل، سوف يجدون أن هذا تعليمهم وموقفهم التقليدي معبَّراً عنه بطريقة مؤكّدة واضحة.
د. قسطنطين كافارنوس
www.orthodoxlegacy.org