في 24 أيار (13 أيار شرقي) من كل عام تحتفل جميع الدول السلافية بتكريم القدّيسين كيرلس وميثوديوس اللذين أنشآ الأحرف السلافية وبشّرا الشعوب السلافية بالمسيحية، وهما مُكرّمان في الشرق والغرب على حد سواء. وتكرّمهما الكنائس الأرثوذكسية السلافية كقدّيسين معادلين للرسل و”معلّميْ الشعوب السلافية”.
والشائع عند الباحثين وأهل العلم أن كيرلس (الذي كان اسمه في العالم قسطنطين، 827-869) وميثوديوس (الذي كان اسمه في العالم ميخائيل، 815-885) كانا من أصل يوناني. حاول بعض العلماء السلاف في القرن التاسع عشر أن يثبتوا بأن كيرلس وميثوديوس كانا من أصل سلافي، معتمدين في ادّعائهم على أن القدّيسين كانا يتكلمان اللغة السلافية ويُتقنانها بطلاقة، ولكن العلماء اليوم يعتبرون هذه القرينة غير كافية للحكم عن القومية. هناك تقليد شعبي بلغاري يعتبر الأخوين القدّيسين بلغاريين، ويؤيد العلماء البلغار المعاصرون هذه الفكرة بحماس مدينة تسالونيكي التي وُلد فيها الأخوان كانت في تلك الفترة ذات لغتين وثقافتين. وعدا عن اللغة اليونانية كانت اللهجة السلافية المقدونية تُستخدم فيها بين القبائل التي كانت تسكن في محيط المدينة، وهذه اللهجة أصبحت هي الأساس للغة الترجمة التي اعتمدها الأخوان كيرلس وميثوديوس وبالتالي للغة السلافية الكنسية، وذلك بحسب علماء اللغة المعاصرين. والأبجدية التي أنشأها الأخوان القدّيسان لترجمة الكتب المقدّسة إلى اللغة السلافية تسمّى بالكيريلية.
ينحدر الأخوان كيرلس وميثوديوس من أسرة شريفة تقيّة من وجهاء مدينة تسالونيكي اليونانية. كان ميخائيل (ميثوديوس) هو الابن الأكبر بين سبعة إخوة، وقسطنطين (كيرلس) هو الأصغر.
كان القدّيس ميثوديوس يحمل في البداية رتبة عسكرية رفيعة وكان حاكماً لإحدى الإمارات السلافية الخاضعة للإمبراطورية البيزنطية، مما أتاح له الفرصة لتعلّم اللغة السلافية. وبعد أن أمضى القديس ميثوديوس هناك مدة 10 أعوام دخل الرهبنة في أحد الأديرة على جبل أوليمبوس.
أماّ القديس كيرلس فتميّز منذ صغره بمواهب كثيرة ودرس مع الإمبراطور الفتى ميخائيل عند أشهر مُعلّمي القسطنطينية، بمن فيهم فوتيوس الذي أصبح فيما بعد بطريرك القسطنطينية. لقد عرف القديس كيرلس كل علوم عصره معرفة كاملة وتعلّم لغات كثيرة، ودرس أعمال القديس غريغوريوس اللاهوتي باجتهاد خاصّ. وتقديراً لعلمه وذكائه حصل على لقب “فيلسوف”. وبعد أن أكمل دراسته تمّ تعيينه أميناً للمكتبة البطريركية في كنيسة آيا صوفيا، ولكنه سرعان ما ترك العاصمة ودخل أحد الأديرة مُتخفياً. وتم البحث عنه وعُرف مكانه وأعيد إلى القسطنطينية وتم تعيينه مُعلماً للفلسفة في مدرسة القسطنطينية العُليا.
كان الشابّ قسطنطين يمتلك حكمة وقوة إيمان عظيمتين مما ساعده على إفحام زعيم الهراطقة المحاربي الإيقونات آنيوس أثناء الجدال معه. وبعد هذا النجاح أرسله الإمبراطور لمحاججة المسلمين في النقاش حول الثالوث القدوس فأفحمهم وهزمهم في الجدال أيضاً. وبعد عودته سافر القديس كيرلس إلى جبل أوليمبوس لينعزل عند أخيه القديس ميثوديوس وليقضي وقته في الصلاة وقراءة مؤلفات الآباء القديسين.
ولكن سرعان ما أرسل الإمبراطور في طلب الأخوين من الدير وأرسلهما إلى دولة الخزر للكرازة بالإنجيل. وفي طريقهما إلى هناك قضيا بضع الوقت في مدينة خيرسونس* ليستعدّا للتبشير. وهناك نال القدّيسان بطريقة عجائبية رفات الشهيد في الكهنة القديس كليمنت بابا روما. بعد ذلك أكملا سفرهما إلى الخزر حيث أفحما حاخامات اليهود وشيوخ المسلمين وحاججاهم وهزماهم في الجدال وبشّرا بتعاليم الإنجيل.
في طريق عودتهما مّر الأخوان من جديد في خيرسونس وأخذا جسد القديس كليمنت ثم عادا إلى القسطنطينية. بقي القديس كيرلس في العاصمة، أما القديس ميثوديوس فاستلم رئاسة دير صغير “بوليخرون” بالقرب من جبل أوليمبوس حيث كان معتكفاً في السابق.
في ذلك الوقت جاء إلى الإمبراطور سفراء من أمير مورافيا** روستيسلاف الذي كان يعاني من مضايقة الأساقفة الألمان، وطلب الأمير من الإمبراطور بأن يرسل إلى مورافيا معلمين قادرين على التعليم والوعظ لشعبها بلغته الأمّ. فدعى الإمبراطور القديس كيرلس وقال له: “يجب عليك أن تذهب إلى هناك، فلا أحد غيرك يقدر على تنفيذ هذه المهمة”. وبعد الصلاة والصوم باشر القديس كيرلس بمهمّته الجديدة. وبمعونة أخيه القديس ميثوديوس والتلاميذ وضع القديس كيرلس الأحرف السلافية وترجم إلى اللغة السلافية الكتب المقدّسة التي لا يمكن إتمام الخدمة الإلهية بدونها وهي: الأناجيل والرسائل والمزامير وبعض الخدم المختارة. كان ذلك في عام 863.
وبعد إنهاء الترجمة توجّه الأخوان القديسان إلى مورافيا حيث لقيا استقبالاً حافلاً وتكريماً كبيراً، وأصبحا يعلّمان الشعب إقامة الخدم الكنسية باللغة السلافية ممّا أثار سخط الأساقفة الألمان الذين كانوا يتمّمون الليتورجيا في الكنائس المورافية باللغة اللاتينية، فثاروا ضدّ الأخوين القدّيسين مؤكّدين بأنه لا يمكن إتمام الليتورجيا إلا بثلاث لغات وهي العبرانية واليونانية واللاتينية، وذلك لأن الكتابة على صليب المسيح كانت بهذه اللغات بالذات.
أجابهم القديس كيرلس: “أنتم تعترفون بثلاث لغات مُستحقة لتمجيد اسم الرب بها فقط. لكن داود يهتف: رنمي للرب أيتها المسكونة كلها، سبّحوا الرب يا جميع الأمم، كل نسمة فلتسبح الرب! ومكتوب في الإنجيل المقدّس أيضاً: اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم…”. فانخزى الأساقفة الألمان، لكنهم سخطوا أكثر وقدّموا شكوى إلى روما. فتمّ استدعاء الأخوين القدّيسين إلى روما للبتّ في هذه المسألة. أخذ الأخوان معهما جسد القديس كليمنت بابا روما وانطلقا إلى هناك. وعندما علم بابا روما أدريان الثاني بأن الأخوين يحملان معهما رفات القديس كليمنت، خرج مع الإكليروس لاستقبالهما واُستقبل الأخوان القديسان بإكرام. وأقرّ البابا الخدمة الكنسية باللغة السلافية وأمر بوضع كتب الأخوين القدّيسين المترجمة إلى السلافية في كنائس روما وسمح بإقامة الليتورجيا باللغة السلافية.
وأثناء وجودهما في روما مرض قسطنطين، وأعلمه الله في رؤيا عجائبية باقتراب ساعة انتقاله، فلبس الإسكيم الكبير باسم كيرلس. وبعد خمسين يوماً من لبسه الإسكيم في 14 فبراير من عام 869 رقد القديس كيرلس المعادل للرسل عن عمر يناهز 42 عاماً. قبل انتقاله أوصى القديس كيرلس أخاه القديس ميثوديوس بإكمال عملهما المشترك الذي هو تنوير الشعوب السلافية بنور الإيمان الحقيقي. وتوسّل القديس ميثوديوس إلى بابا روما بأن يسمح له بنقل جسد أخيه ليدفنه في موطنه، لكن البابا أمر بأن يوضع جسد القديس كيرلس في كنيسة القديس كليمنت، حيث صارت المعجزات تتمّ من جسده.
وبعد رقاد القديس كيرلس أرسل بابا روما القديس ميثوديوس إلى بانونيا*** وذلك بطلب من الأمير السلافي كوتسيل، وقبل ذلك كان قد رسمه رئيساً لأساقفة مورافيا وبانونيا على الكرسي القديم للقديس الرسول أندرونيك.
واستمرّ القديس ميثوديوس مع تلاميذه بنشر الليتورجيا والكتب والكتابة باللغة السلافية في بانونيا. وهذا أثار غضب الأساقفة الألمان مجدّداً، فبذلوا جهداً وتحقق لهم سجن القديس ميثوديوس ومحاكمته واعتقاله، وثم تم نفيه إلى شوابيا**** حيث عانى آلاماً كثيرة لمدة سنتين ونصف.
بعد ذلك تمّ إطلاق سراحه بأمر من البابا يوحنا الثامن واستعاد حقوقه كرئيس أساقفة، فاستمرّ القديس ميثوديوس بنشر الإنجيل بين السلاف وعمّد الأمير التشيكي بوريفوي وزوجته القديسة لودميلا وكذلك أحد أمراء بولندا. للمرّة الثالثة قام الأساقفة الألمان بإقامة دعوى على القديس ميثوديوس واتهموه بأنه لا يقبل تعليم كنيسة روما حول انبثاق الروح القدس من الآب والابن. وتم استدعاء القديس ميثوديوس إلى روما، فحافظ على نقاوة التعليم الأرثوذكسي وبرّأ البابا ساحته وأعاده إلى عاصمة مورافيا فيلغراد.
في سنوات حياته الأخيرة في فيلغراد ترجم القديس ميثوديوس إلى اللغة السلافية العهد القديم كله باستثناء أسفار المكابيين و”النوموقانون” وسيَر الآباء القديسين وذلك بمعونة تلميذين كاهنين.
وعندما شعر القديس ميثوديوس باقتراب أجله أشار إلى أحد تلاميذه القديس غورازد بأن يكون خلفاً له. وتنبأ القديس بيوم موته ورقد في 6 أبريل من عام 885 عن عمر يناهز 60 عاماً. وأقيمت صلاة جناز القديس ميثوديوس بثلاث لغات: السلافية واليونانية واللاتينية، وتم دفنه في كاتدرائية فيلغراد.
تحتفل الدول السلافية بعيد الثقافة والكتابة السلافية على نطاق واسع في 24 أيار (13 أيار شرقي) من كل عام وهو يوم التذكار الكنسي للأخوين القديسين كيرلس وميثوديوس. إن الإيمان الأرثوذكسي والثقافة التي نشأت وتطوّرت على أساسه هي العامل المشترك الذي يوحّد الشعوب السلافية الشرقية والجنوبية.من المعروف أن الاحتفال بهذا العيد يعود إلى تقليد كنسي بلغاري كان موجوداً في القرنين العاشر والحادي عشر. ترجع أقدم الشهادات الوثائقية حول عيد القديسين كيرلس وميثوديوس الذين اشتهرا أيضاً باسم “الأخوين التسالونيكيين” إلى القرن الثاني عشر، رغم أن تكريمهما بدأ في أواخر القرن التاسع.
————————-
* خيرسونس (الصيغة السلافية “كورسون”) – مدينة تاريخية يونانية في جنوب شبه جزيرة القرم. توجد أطلالها في مدينة سيفاستوبل حالياً.
** مورافيا – منطقة تاريخية تقع أجزاؤها اليوم بين التشيك وسلوفاكيا والنمسا وبولندا وهنغاريا.
*** بانونيا – مقاطعة قديمة في الإمبراطورية الرومانية تقع أجزاؤها اليوم بين غرب المجر والنمسا الشرقية وشمال كرواتيا وشمال صربيا وسلوفينيا وسلوفاكيا الغربية وشمال البوسنا والهرسك.
**** شوابيا – منطقة تاريخية في جنوب ألمانيا.
عن موقع : التراث السلافي الأرثوذكسي