1- المسيحيّة[1] هي دخول حياةِ الله في مَدى حياة الإنسان. هي نوعٌ من الظُّهور الإلهيّ، فالله نفسُه يلبَسُ الإنسان، ويصعَدُ به إلى السَّماء ليَجلِسَ عن يمين الآب. هذا هو جوهر إيماننا: نحن لا نقولُ إنّ الله صار إنسانًا فحَسْب، بل إنّنا مَدعُوّون لنصير مثل الله في المسيح بفِعْل الرّوح القدس.
2- الكنيسة ليست مؤسّسة بشريّة، ولا حتى “ديانة”، إنّما هي جماعة (شَرِكَة) المتألّهين”، كما يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس. هذا يَعني أنّنا نؤلِّفُ معًا جماعةَ الّذين يبتغون أن يعيشوا في شركَةٍ مع الله. الكنيسة هي ملكوت السموات بيننا، ولكنْ يبقى علينا أن نكتشفَهُ شخصيًّا بمساهمة حرّيتنا الشّخصيّة.
3- هدف الحياة المسيحيّة، بحسب القدّيس سيرافيم ساروف، هو اقتناء الروح القدس، وتحقيق ملكوت السموات في ذاتنا، هذا الملكوت الّذي دخلَ فينا يوم معموديّتنا. هدفُ الحياة المسيحيّة إذًا هو أن نعيش حياة الله.
4- كُلُّ إنسانٍ مَسيحيّ مَدعوٌّ إلى الكمال، وليسَ أمام الإنسان المسيحيّ طريقان: واحدة تكفيه لتأمين خلاصه بعد الموت، وأُخرى تقودُ إلى الكمال الإنجيليّ، تَسْلُكُها أَقلِّيَّةٌ مُختارَة من الناس. فالخلاص يقتضي أن نَتْبَعَ المسيح، وأن نسعى لتنمية بذار الحياة الإلهيّة الّتي أُلقِيَت فينا يومَ المعموديّة. وكما يَقولُ القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم، “الإنسان المسيحيّ هو الّذي يُفكِّر في سلوكِه وقراراته كلّها أنّ المسيح مَعَنا في كلِّ مكان”. ويقول أيضًا لا يمكننا أن نكون مسيحيّين “بنِصْفِ دَوام”. ويقولُ أيضًا: “وَهْمٌ كبيرٌ ظنُّكَ أنّ الرّهبان والعلمانيّين ليس عليهم الواجبات ذاتها، لأنّهم، ما عدا الزّواج أو البتوليّة، سيؤدّون الحسابَ نفسَه… فالمسيح لا يتكلّم في الإنجيل على علمانيٍّ وراهب، إنّما هذا التَّفريق من نتاجِ العقل البشريّ، ولا يَعرفه الكتاب المقدّس. كلُّنا إذًا مدعوّون إلى كمال الحياة السماويّة، ولنا اختيار نمط هذه الحياة: إمّا الزّواج وإمّا البتوليّة المكرّسة، ولكنّ المطلوب واحد، وهو التخلّي عن الدُّنيا، عمّا يسمّيه الكتاب المقدّس “الإنسان القديم”.
5- لقد ارتضى المسيح أن يَتَسربَلَ الطبيعةَ البشريّةَ ويَقْبَلَها في ذاتِه، فخاضَ المعركة في بشريَّتِه، وأحرزَ لنا انتصارًا حاسمًا على العدوّ الأكبر للإنسان، أعني الموت. هذا ليُظهِرَ لنا أنّه علينا اتّباعَ خُطاه وإحراز انتصاره في بشريّتنا.
6- ليس من عيبٍ وأمرٍ مُشين للمسيحيّة أكبر من رؤية مسيحيّين واجِمين، مُكتئبين، يغتمّون من مواجهة الموت. هؤلاء لا يَشهدون في حياتِهم لفرح القيامة، في حين أنّ الرسول بولس يَحُثُّنا على الفرح كلَّ حينٍ هاتفًا: “أين شوكتكَ يا موت؟ أينَ غلبتُكِ يا جحيم؟ ولكنْ شُكرًا لله الّذي يعطينا الغلَبَة بربّنا يسوع المسيح”! (1كور15: 57).
7- ليس الشيطان عدوَّنا الألدّ، ولا “العالَم”، بل الأنا، هذه الأنانيّة الّتي يسمّيها الآباء القدّيسون “حُبّ الذات”، وهي مصدر مشاكلنا ومشاكل المجتمع كلّها. لذا فالحرب الروحيّة الّتي نحن مدعوّون إلى أن نخوضَها ضدّ الشيطان وأعوانه، من خلال حَمْلِنا الصليب كلَّ يوم، إنّما هي برنامج حياة الإنسان المسيحيّ.
8- بعد زمان الاستشهاد والاضطهاد، اضطرمَ بعضُ الناس اشتياقًا إلى “إتمام آلام المسيح في أجسامهم”، كما يقول بولس الرسول (كول1: 24)، فانصرفوا إلى البراري، وثقوب الأرض، والغابات الدّاغلة، أو صعدوا أَعمدةً، بَحثًا عن العُزلة المساعدة على الصلاة، ليُقاتلوا بالجسد الأبالسة الّتي حَسَدَتْ ما يتمتّعون به من القُربى إلى الله.
9- نحن أيضًا نستطيع أن نقتفي آثار المجاهدين الروحانيّين، وليس هذا من الماضي. لا ينبغي أن نتعلّل بتغيُّر الظُّروف، وصعوبة الحياة المعاصرة. نحن مدعوّون إلى الجهاد بالمقدار عينه من محبّة المسيح. كلُّ مؤمن عليه أن يهتفَ مع بولس: “مع المسيح صُلبتُ. فلستُ أحيا أنا، بل المسيح يحيا فيّ” (غلا2: 20). أمسى العيشُ كمسيحيّ مَدعاةً للسُّخريّة. ولكن لا بدَّ أن نأخذ هذه السُّخريّة على عاتقنا، كما يقول بولس الرسول: “لا يخدعنّ أحدٌ نفسَه. إن كان أحدٌ يظنُّ أنّه حكيمٌ بينكم في هذا الدهر، فليصِر جاهلاً لكي يصير حكيمًا… نحن جُهّال من أجل المسيح” (1كور3: 19 و4: 10).
10- من أهمّ أشكال الأنانيّة تكديسُ أشياء لا لزوم لها. فمجتمعنا اليوم لم يَبْقَ “مجتمعَ الاستهلاك”، بل “مجتمع الطّمع”، وهو لا ينفكُّ يختلق حاجات كاذبة تُمسي لنا من ضروريّات الوجود. لهذا قالَ أحد الإعلانات: “أنا أشتري إذًا أنا موجود”. فبدءُ جهادنا يكمن في التخلُّص من أشياء تُكدِّرُ حياتَنا وهي غير لازمة، والاكتفاء بما هو ضروريّ. فالطّمع لا يعني فقط أن نكدّس الأشياء، بل أيضًا أن نسعى إلى راحتنا الشخصيّة، أو أن نتوخّى اتّباع الموضة.
11- يجب ألاّ ننسُب إلى ذواتنا أيًّا من أعمالنا الصالحة، وألاّ نيأس من سقطاتنا، لأنّ هاتَين الحالتَين تكشفان كلاهما أنانيّةً تتستّر وراءَ كلامٍ فيه تذلّل وتقوى. ولكنّ المتواضع ليس مَن يتذلّل بالكلام، بل مَن يسعى إلى الاحتجاب، والخَفَر.
12- قبلَ الوصول إلى محبّة القريب الحقيقيّة، الّتي هي “أن يعطي المرء حياتَه لأجل أحبّائه (يو15: 13)، اقتداءً بالمخلِّص، علينا أن نُضاعفَ جهودنا حتى نقبَل الآخر على اختلافه. وقبول الآخر يعني أن أُرغِمَ ذاتي على عدم إدانته، وعدم السّعي إلى تصحيحه في كلّ مناسبة، رغبةً في إخضاعه لمقاييسي وميولي الخاصّة. لا، بل ينبغي أن أَقبله كما هو. قبول الآخر لا يعني تبريرَ الخطيئة أو الخطأ، بل التعاطي والناس الّذي نعاشرُهم في حياتنا اليوميّة بما نوليه من الاحترام واللطف لأيقونةٍ حيّة، مهما تشوّهت أو تلطّخَت بالإثم.
13- تبدأ الحياة الروحيّة حُكمًا بالصّوم، أو ما يُدعى أيضًا “الإمساك” (εγκράτεια)، وهو لا يقفُ عند التزام الصّوم في الفترات المحدّدة كَنَسيًّا، استعدادًا للأعياد ولتناول الأسرار المقدّسة. أجل، هذه الفترات مهمّة لأنّها تعطي نمط حياتنا مَنحاه الكنسيّ، ولكنّها لا تكفي. فالصوم يجب أن يحدِّد حياتنا اليوميّة بشكل ثابت، ويضعُ حدودًا طوعيّة لمَيْلِنا إلى إشباع رغباتنا. إنّه يكمن في استبدال اللذة المادّيّة العابرة لا مَحالة بفرح الحرمان الطوعيّ. وفرح الحرمان بدافع محبّة الله يولّد فينا، بالمقابل، حِسًّا متناميًا لحضور الله.
14- الإنسان في المجتمع “ما بَعد الصّناعيّ” postindustrielle société، الّذي دخلْنا فيه، ليس مستهلكًا وحسبْ، بل يزداد استعبادًا للصّوَر والمعلومات الّتي تملأ حياته. إذًا تقتضي ممارسةُ النُّسك في العالَم أن نصومَ “صَوْمَ العَينَيْن”، أن نصوم عن المعلومات غير المفيدة، والملاهي الّتي تُضيّع وقتنا، فيما نستطيع أن نستثمرَ هذا الوقت بالأنشطة الروحيّة الّتي تغذّي نفوسَنا. فمعظم النّاس يقولون إنّهم لا يملكون الوقتَ للصلاة وأنشطة الحياة الروحيّة، ولكنّهم يجدون الوقت لرَصْدِ الأخبار الّتي تتدفّق بلا توقّف، ولا تعطي عن الحيقيقة إلاّ صورة مُتَحيِّزة.
15- يتكلّم الآباء عن الأفكار، ويقصدون الأفكار المحرَّكة من الأهواء، لا حركات الفكر ونشاط العقل. تظهر هذه الأفكار في قلبنا بشكل صور بسيطة، تعيدُ إلينا ذكرًى ما أو عملاً سيّئًا قُمنا به. في هذه المرحلة، إذا لم يأتِ هذا الفكر من أنفسنا، فلا لوم علينا. أمّا إذا بدأنا نقبل هذه الصّورة بانسجام ورغبة، فتبدأ “علاقتنا” بها. إذا لم نَصُدَّ هذه العلاقة بقوّة، نقع أسرى الفكر الّذي يبدأ يُلحُّ علينا. فإمّا أن نُذعِنَ لهُ، أو أن نطردَهُ بالصّلاة الحارّة. أمّا إذا قبلناه، واتّخذ هذا الفكر مكانًا في نفسنا كأحد الأهواء، فيقودنا إلى الخطيئة بالفعل. هذه العمليّة الّتي تولّدها أفكار الأهواء في ذاتنا حلَّلَها “الآباء اليقظون” (Pères neptiques) وجعلوا منها علم النّفس وحركاتها. فعلم النّفس الحديث ليس إلاّ نسخة علمانيّة هزيلة لعملهم هذا.
16- لكي نستطيع أن نميّز بذور الأفكار الّتي تُفرِعُ فينا، علينا أن نسهر سهرًا كافيًا على حركات قلبنا، وكياننا الداخليّ. هذا السّهر يُدعىَ أيضًا “حفظ القلب”، وهو يحوي كذلك مجمل العلم الرّوحيّ، ويتضمّن درجات لا تُعَدُّ ولا تُحصى. ولكنّنا لا نستطيع أن نتمرّس فيه إلاّ بقدر ما تخلو حياتنا من الاضطرابات والحوادث الّتي تعترضنا في مسيرة الترقّب الداخليّ للنَّفْس. فكما يتعذَّر الإبحار في مياهٍ تخبطها الأمواج، كذلك لا يُمكِنُ أن نجتاز في خضمّ القلب المضطرِب.
17- الجهاد الرّوحيّ المطروح إزاءَنا، سواءٌ أكُنّا رهبانًا أَم علمانيّين، هدفه الوحيد في النهاية هو أن نوقظ في أنفسنا هذا العشق للمسيح، محرّرين النّفسَ مِن عُشّاقها المزيَّفين. ورغمَ سقطاتنا، وخيباتنا في الجهاد، وإخفاقنا أحيانًا، إذا لم نَيْأَس، بل عاودنا الكفاح كلَّ صباح، واضعين رجاءنا في معونة الله، نتعلّم أن ننتبه لصوت الّذي يقرع باب قلبنا، منتظرًا أن نفتح له، ليدخل ويتعشّى معنا (رؤ3: 20). حتى تلك الساعة، لم نكُن نسمع، بسبب التهائنا بصخَب الدُّنيا.
18- الإحساس بالزمن لدى الراهب الّذي انكفأ عن العالم ليعيش في الموانئ السّلاميّة، أعني الأديار، يختلف عن إحساس أهل العالم المُنغَمِسين حُكْمًا في دوّامة الأحداث. في الدّير، يبدو الزّمن متوقّفًا، والسِّنون تمضي على وَقْعٍ وَحيدٍ هو تَتالي الأعياد والأصوام. فالحياة الرُّهبانيّة في جَوْهَرِها خارجةٌ عن نطاق الحوادث، ولا ينبغي أن يلفُت الراهبُ الأنظار.
19- أصابَ من حَدَّدَ المجتمعَ الغربيَّ بأنّه “مجتمع الشهوة”، بدلاً من “مجتمع الاستهلاك”. فالاقتصاد العالميّ بأسره يقوم على تغذية حاجات لا تنتهي بواسطة الدعايةpublicité) )، من خلال المناداة بوعود لَذّاتٍ سهلة متواصلة، بعيدة عن الحاجات الحقيقيّة للإنسان. والهدف الوحيد من هذا هو إشباع الرغبة، وتثبيت “الأنا”.
20- الثورةُ المَعلوماتيّة ووسائل التواصل المباشَر تُمكّننا اليوم من أن نطّلع اطّلاعًا مباشَرًا على كلّ شيء تقريبًا. كلٌّ منّا له أن يصل إلى كمّيّة معلومات لا يمكن لأحد التّحكّم بها، ولا حتى ترتيب محتوياتها كما يجب. فبهذه الطّريقة، انتصر وَهْمٌ آخر، وَهْمٌ قائمٌ على المعرفة المباشَرة السّهلة، وعلى شبكات الترابُط، وعلى عالم ظاهريّ (virtuel)، كلّما غاصِ فيه المرء غَرَّقَه في عزلة كُبرى. ولا داعي هنا لأَسوقَ لَكُم مثَلاً واضحًا عن شُبّان يُقيمون صداقات في أربع أقطار الأرض، ولا يعرفون أن يُكلّموا المقرَّبين منهم.
21- المجتمع الاستهلاكيّ دخل منذ زمن بعيد في عمليّة تدمير ذاتيّ تجرّ خلفها الطّبيعة (الأزمة البيئيّة)، والعالم بأسره (العَوْلمة). إلاّ أنّ معظم الناس ما زالوا عميانًا، يظنّون أنّهم مستمرّون في “التحرّر” من قيود المجتمع البُورجوازيّ (المحافظ). والنتيجة واضحة: أزمة اقتصاديّة وخُلُقيّة شاملة، وانعزال أشخاص لا يؤمنون بشيء، وسعي جنونيّ إلى إشباع الرغبات الأنانيّة والروح المادّيّة، فطلاقٌ، فإجهاضٌ، فانتحارٌ، وهلمّ جرًّا.
22- إنّ عالَم العَولمة والتواصل أمسى عالَمَ الانعزال وانقطاع الشركة بين الناس، الّذين باتوا أرقامًا أو أشياء.
23- نحن الآن نساءُ ورجالٌ يدّعون أنّهم “متحرّرون”، ويزدادون شقاءً، لا من حيثُ المستوى المادّيّ فحسب -بسبب انهيار النظام الاقتصاديّ-، بل من حيث فقدانُهم معنى الحياة، وتَعَاستُهم النّفسيّة والروحيّة.
[1] مأخوذة من محضرات للأب مكاريوس من دير سيمنوسبتراس جبل آثوس ألقيت في أبرشية طرابلس والكورة وتوابعها.
موقع مطرانية طرابلس والكورة
كلمات روحية 1