• مقدّمة[1]
في الحقيقة، ليس من عمر معيّن لاستهلال المسيرة الرّوحيّة، وليس من معايير منطقيّة معينة تحدّد تقدّم المرء في هذه المسيرة. قد يستهوي المرءَ أن يعدّد بعضًا من تلك المعايير، ولكن ليس هذا هدف لقائنا اليوم.
لمقاربة العلاقات الرّوحيّة مع الآخرين طرائق مختلفة، فمن النّاس مَن نرافقه منذ الطّفولة الباكرة، ومنهم مَن نلتقيه على دربنا ونترافق معًا، ومنهم أيضًا مَن يسيرون في طريقهم الخاصّة، فتتلاقى دروبنا، لكي يتسنّى لنا أن نوجّه إليهم كلمة روحيّة، أو نشاطرَهُم بعضَ أوقات حياتنا.
طلبتُ أن أستعلم عن معنى جزءٍ من موضوع اجتماعنا هذا المساء: “فنّ العَيش”، فوجدتُ شتّى الأجوبة، كما وجدتُ كلامًا في “فنّ الموت”. ولـمّا حاولت أن أعزل كلمة “فنّ”، صادفتُ عبارة أعجبَتني وعجّبتني معًا: “إنّ تصنيف الفنون ليس شاملاً ثابتًا، ويبدو لي أنّ الإجماع على تصنيفٍ واحد ليس ممكنًا، بل لا معنى له” (ويكيبيديا).
أمّا الرّوحانيّة، فيمكن كذلك أن نقاربها من جوانب مختلفة، ولكنّني سألتزم الجانب الّذي يسمح لي أن أربطها بالإيمان بالله، وسوف أحاول معكم أن أنظر في فنّ العيش بهذا المعنى. والحقّ إنّ فنّ الحياة في المسيحيّة ليس مقاومة الموت أو رفضه، بل يرتكز على إيمان لا يتزعزع بالانتصار على الموت بالموت، فيضحي الموت بابًا إلى الحياة الأبديّة.
- · مواجهة الألم
لن آتيَ مسامعَكم أمرًا جديدًا إذا ذكّرتكم بأنّ مجتمعنا منظَّم بحيث الأولويّة معطاة لهموم الإنسان، بالنّسبة إلى الفرد، كما بالنّسبة إلى الجماعة. بات الإنسان يريد أن يصنع سعادته بيديه، وأن يُبعِد عنه الشّرّ بيديه. وكم نسمع النّاس يقولون “تُذْكَر ولا تُعاد”، تعبيرًا عن رغبتهم في ألاّ تتكرّر هذه الشدّة أو تلك من حياتنا، وكأنّهم يبحثون بإصرار عن مذنب يحاكمونه على فِعلته. بهذه الطّريقة يودّ مجتمعنا أن يؤكّد رفضه لله، أو على الأقلّ، يريد أن يرمي بالروحيّات إلى مستويات أقلّ أهمّيّة وفعاليّة. ولعلّه يمكننا القول هنا إنّ مجتمعنا الحاضر يرفض الله من خلال تحميله مسؤوليّة الألم الذي لم يعد مقبولا كجزء أساسي من الحياة. ولكن، في الوقت نفسه، إذا ذاق فرحةً ما، يتلقّاها في أوانها الحاضر، ولكنّه لا يرغب في ربطها برجاء الخيرات المستقبلة، لأنّ ذلك يتطلّب بذل جهود على المدى الطويل، وهذا ما نعجز عنه بسبب قلّة ثباتنا ومثابرتنا.
نحن نحمل في داخلنا ذكرى حياة الفردوس، الحياة مع الله. في كلٍّ منّا جذور فنّ العيش الفردوسيّ هذا، الذي عاشه الإنسان قبل السّقوط، فلم يعرف المرض ولا الموت، بل عاش بهناء وسلام. لذلك نؤمن بأنّ الإنسان يتوق بلهفة وحنين إلى استعادة تلك الحالة من الطّمأنينة. وهذه العودة ممكنة،كما يُعلّمنا الآباء، عندما نختبر الحياة مع الله بالنّعمة. في الممارسة الرّوحانيّة المستمِدّة جذورَها من التّراث الأرثوذكسيّ، هذه الحالة من النّعمة، التي يمكن بلوغها منذ الآن، تعبّر أوّلاً عن التحرّر من الأهواء ونسمّيها “هدوئيّة” (hésychasme). الكلمة في اليونانيّة تفيد معنى السّكون والصّمت. وهذا التّحرّر يسمح لنا بأن نستشفّ في العالم الحاضر مفاعيل العالم الآتي التي يُعلن بواكيرَها سفر الرّؤيا، حيث “سَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ” (رؤيا21: 4).
فالّذين يمارسون الهدوئيّة لا يشعرون من بعد بسطوة الأهواء الدّائمة عليهم، وبالتّالي يشعرون بأنّهم تحرّروا في الوقت نفسه من التَأثير النّفسيّ والجسديّ للألم على الإنسان، حتّى لو بقي الجسدُ يُظهِر عوارض هذا الألم، ويعاني من وطأة مَعطوبيّته.
إنّ معصية الإنسان لله أفسدته. من خلال هذه المعصية، الّتي نؤمن أنّها جذر الخطيئة، دخل الموت إلى العالم، واستشرى بين النّاس (انظر رو5: 12)[2]. وطالت عواقبها النّاس كلّهم، بالوراثة كما بالتورّط الشّخصيّ.
- · الرجاء في وجه الموت والمرض
كان زمانٌ شاع فيه القول إنّه ليس ما يضاهي خوف الموت. أمّا في أيّامنا، فكثيرون ينادون الموت برغبة، طلبًا للتخلّص من مرض عُضال مزمن، أو آلام باتت لا تُطاق. بالأمسِ كان الموت عدوّنا، أمّا اليوم، فحلّ محلَّه العجز والمرض. فنحن نقول لكلا الفريقَين إنّ الحياة في الألم ليست مصيرنا النّهائيّ، وإنّ الموت والألم قد انهزما إزاء الرّب الذي احتمل الجَلد والضّرب، والبصاق، وموت الصّليب. لم يهزمهما فحسب، إنّما أعطى الحياة أيضًا للمطروحين في القبور.
إنّ مَن فقدَ شخصًا عزيزًا وهو يبكي رحيلَه والفراغ الذي تركَه لا يمكن لأيّ تفسير روحانيّ، ولا بيولوجيّ، ولا علميّ أن يعزّيه. غياب الفقيد صعبُ الاحتمال لتعذّر مواصلة علاقتنا به. هنا الألم على قدر المحبّة والأسى، وليس البكاء سوى تعبير عن ثورة المشاعر والذّهول أمام الحدث.
ورُبَّ سائلٍ: لماذا هذا الألم كلّه؟ لماذا الموت؟ لماذا يُعطي الله ويأخُذ؟ (أنظر أيّوب 1: 21)[3].كم منّا ردّدت قلوبهم وشفاههم كلام زوجة أيّوب، عندما وصلَه الخبر أنّه خسر كلّ شيء: “أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ إلعَنِ اللهِ وَمُتْ!» (أيّوب 2: 9).
في الحقيقة، يصعب علينا الجواب، ولسنا ندّعي أنّنا أحكَمنا الإحاطة بالموضوع، غير أنّنا سوف نحاول أن نأتي ببعض عناصر الإجابة عنه. فلو بقينا في الجهل التّام، لانتهينا إلى قبول الفكرة أنّ الذّنب في أحزاننا يقع على الله، وخلصنا إلى إعفاء أنفسنا، كبشر، من أيّ مسؤوليّة.
نحن نؤمن بإله المحبّة والرّحمة، إلهٍ بَذلَ كلمته المتجسّد الّذي وَلدَه قبل الدّهور، فأَرسلَه ليأخذ طبيعتنا البشريّة، ويشاركنا كلّ جوانب حياتنا. فلقد خَبِرَ المسيحُ تحرُّك العاطفة، وشفقة القلب، والقلق، والجوع، وسوء المعاملة، والصّلب، لكي يُبشّرنا بالرجاء أنّ حالاتنا عابرة، مهما تكُن، وأنّ الحبّ سيَقهر الألم والحزن نفسه، والفراق بسبب الموت. المرض والموت يفاجئان كبرياءنا وثقتنا المبالغة بقوّتنا وسلطتنا وإمكانيّاتنا. طوبى “للوديع والمتواضع القلب”، على مثال الرّبّ، الّذي “يريح” نفوسنا (انظر متّى11: 29)، فإنّه يدرك في هذه الحياة الضّرورة القصوى لطلب السّنَد والتّعزية اللذّين يحتاجهما، غير منتظرٍ أن يهزّ كيانَه المرضُ أو موتُ شخص قريب.
إذا رضخنا لتجربة الانعزال والانغلاق، لن نبقى نحتمل المرض أو الفراق. هذه الحالة توهمنا أنّنا أَمسينا وحيدين، متروكين من الجميع. نظنّ أنّه ليس إله ولا إنسان يستطيع أن يفهم الشّعور الذي يثقل قلبنا. وإذا استمرّت هذه الحالة، نُمسي في خطر حقيقيّ، لأنّنا نصل إلى وضع أنفسنا أمام الخيار الأقصى بين الحياة والموت. أمّا إذا توَصّلنا إلى القناعة بأنّ الغياب ليس قطيعةً تامّة، يمكننا أن نجد، في الصّلاة، خطوط تَواصُل تربطنا بالذين فقدناهم. هذا يتطلّب أن نتقبّل رحيلهم عن هذا العالم، وولادتهم في السّماء، وأن نؤمن بشركة القدّيسين، وبقوّة شفاعة مَن يصلّي بالذين أَمسَوا عاجزين عن الصّلاة. لا يمكننا أن نستند إلى إثارة العواطف لنمدّد ذكرى الرّاحِلين الذين غابوا عن حياتنا جسديًّا.
- · أسباب الحزن
تُرى أيّ حركات نفسيّة ينشأ عنها الحزن؟ أهو الألم الجسديّ، أو فراق شخص عزيز، أو الشّعور بالفشل وأنّنا مرفوضون؟ يبدو أنّها كلّها معًا! ولكن في آخر النّفق نور واحدٌ يلوح، نور الرّجاء! الثّورة لن تَهمُد إلاّ حينما نُعيد اكتشاف الفسحة التي تربطنا بالله، أعني مطرح الثّقة، والوعي، والهدوء، حيث يمكننا القول بالفم الملآن: “لِتَكُنْ لا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ” (لو22: 42).
كثيرًا ما يبحث المتألّم عن مقوّمات الجواب. قد يلتفت الآخرون إلى تألّمه، ويحاولوا أن يشاطروه بعضًا منها، إلاّ أنّهم لا يستطيعون أن يُقيموا مع الذي يحمل الألم في قلبه، وفي جسده. على هذا المستوى، يبقى الألم شخصيًّا، ولكنّنا مدعوّون إلى الخروج من الحلقة المفرَغة النّاشئة عن الشّكوى إلى ما لا نهاية، لئلاّ ننهزم إزاء تجربة التلذّذ باطنيًّا بهذه الشّكوى. وبالفعل، يأتي وقتٌ ندرك فيه ضرورة الانفتاح وطلب المساعدة حتّى يستعيد قلبنا السلام.
في هذه الخانة يمكن أن نضع المصابين بأمراض تُسمّى مُزمنة، حيث يبذل الفريق الطبّيّ جهودَه في معالجة الألم وتسكينه، وتهيئة المريض، في الوقت نفسه، على تقبّل حياة تتنازعُها فورات النّفس وسَكَناتُها. الأمر ينطبق كذلك على بعض التجارب الرّوحيّة، الّتي يصفها آباء الكنيسة بأنّها ترافق كلّ مَن يلتزم الجهاد الرّوحيّ مدى الحياة. يمكننا أن نَعْهَد بأجسادنا إلى مَن يداويها، فيما نعهد بأنفسنا وأرواحنا إلى الله الذي وحده يعزّي في التجارب. كما نستطيع أن نسلّم أمرَنا كلّيًّا لمَن هو طبيب النّفوس والأجساد معًا.
أمّا الموت، فليس حالة فرديّة، إنّما هو عبور محتَّم لا يُعفى منه أحد، لا الخاطئ ولا الصدّيق في عين الله، لأنّه “ليس إنسان يحيا ولا يخطئ”. الموت في التراث الكنسي هو أيضًا نعمة وهبها الله للبشر بعد السّقوط، لكي لا يعيشوا الى ما لا نهاية في الألم والمرض والخوف. الموت بابٌ نفتحه لنغادر هذا العالم وتجاربه. ولكنّه يبقى سرًّا، مهما تكن آراؤنا فيه. إنّه سرٌّ سيكشف الله وحده خفاياه عندما يحين ملءُ الزّمان.
- · مساعدة المتألّم
ما نستطيع أن نعطيه للمتألّم هو بكلّ بساطة ما نتمنّى أن نجده عندما نقع فريسة الألم بدورنا: أُذُنًا صاغية، وحضورًا، ولو صامتًا، لا بل في الصّمت أوّلاً. في معظم الأحيان، تقتصر أهمّ متطلّبات المتألّمين على الرّغبة أو الحاجة إلى أُذُن صاغية.
أمّا الإنسان المسيحيّ، فيجب تذكيره بأنّه لا يحيا من أجل ذاته، بل إنّه تلقّى الحياة هبةً يُفعّلها في انشداده إلى الله والقريب. هو مدعوٌّ ليصير، في كلّ حين، زيتًا وخمرًا للسّامريّ الصّالح، يمسح بهما ويعالج جراح المعذَّبين كافّة، المرمِيّين على جنبات طرقات هذه الدُّنيا.
ويمكننا أيضًا أن نُحدّثه عن الاستشهاد، حيث يُسَلَّم المسيحيّ إلى معَذِّبيه لرفضه إنكار الإيمان. لذا تحتفل الكنيسة بموته على أنّه انتصار، وهو يُكرَّم كتلميذ للمسيح اقتدى به، وبفضله يتخطّى موكبُ جنازته دائرةَ الأسرة والأقرباء، فيصير احتفالاً يجمع شمل المؤمنين. وفي هذا العبور من المجتمع العائليّ إلى الجماعة الكنسيّة ما قد يفسِّر التغيّير المعبِّر الذي طرأ على الشعائر الوثنيّة. كانت هذه الشعائر تقضي بإحياء ذكرٍ خاصٍّ للميت يوم تاريخ مولده. أمّا الجماعة المسيحيّة فاختارت تاريخ رقاد الشّهيد او تاريخ دفنه للاحتفال بذكراه، ناظرةً إلى الموت كأنّه ولادة في الحقيقة، فلا يبقى مدعاةً للحزن، بل للفرح.
إلى ذلك، يمكن أن نُحدّث الإنسان المسيحيّ عن إدراك الكنيسة لأهمّيّة رفات القدّيسين. ففي التّراث الأرثوذكسيّ، ما زالت توضَع هذه الرّفات إلى اليوم مختومًا عليها في مائدة الهيكل. هذا يشير إلى أنّ الربط بين المائدة والقبر من خلال ما يرمز إليه القربان كان قائمًا في الأذهان منذ ذلك الحين.
ثمّ يمكننا أن نحثّه على عدم تلقّي الموت كأنّه عقاب أو مصير مشؤوم، بل كمغامرة في المسيح نستعدّ لها بإتقان واهتمام. حينئذٍ، يغدو الألم محرِّكًا يوفّر الطّاقة اللازمة للمضيّ قدُمًا في هذا السّعي. إنّ موقفنا من الألم والموت يتحدّد في الأساس بموقفنا في أيّ جهاد روحيّ.
نحن مرتبطون بالأرض بولادتنا الجسديّة، وبطبيعتنا الأرضيّة، ولكنّ تلك الطّبيعة المدعوّة لقبول المسيح تكتسب منه بُعدًا يتخطّى كلّ ما يبدو لنا في هذه الدّنيا اعتبارات وجوديّة. هذا ما يخفّف من اضطرام الأفكار، وتأثّر الآراء بالأهواء، والانفعالات الغضبيّة عند مَن يتوق إلى القداسة.
أخيرًا، يفيدنا أن نتذكّر أنّه “لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ”، فمثلاً “لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ” (الجامعة 3: 1-2).
ولعلّه يبقى الأصعب أن نَقرِنَ الأقوال بالأفعال كلّما لزم الأمر، ولكنّ ما يَعسُر على الإنسان متيسّرٌ لدى الله، الذي هو نبعُ إلهامنا، لأنّه غالبًا ما تظهَر إرادة الإنسان وحدها عاجزة.
فليبارككم الله، آمين.
الأب مارسيل (سركيس)
[1]حديث أُلقِيَ في ندوة حول الموضوع يحمل العنوان نفسه، نظّمتهُ جمعيّة “مرافقة الحياة حتّى النّهاية”، في مركز الّلقاءات الدّوليّة في موناكو (فرنسا).
[2] “مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ”.
[3]”الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا”.