...

أحد العنصرة

يلفتنا، في هذا العيد، أنّ الكنيسة تقرأ علينا، في الصلاة السحريّة، قسمًا من إنجيل قرأته في أحد توما، أي الخبر الذي يروي أوّل ظهور للربّ الحيّ أمام تلاميذه وإعطاءه إيّاهم الروح القدس، الروح الذي ينقل المؤمنين به من ظلام الأرض إلى نور السماء. ظاهريًّا، قد يبدو هذا الخيار غريبًا عن عيد العنصرة. لكنّه، من جوهر العيد، يُفصح أنّ وظيفة الروح أن يحيي فينا أنّ الربّ حيّ، لننقل حياته إلى العالم.

أمّا إنجيل القدّاس الإلهيّ، فيخبرنا عن أحداث جرت في آخر أيّام “عيد الأكواخ” التي كان اليهود ينصبونها، ويقيمون تحتها مدّة سبعة أيّام (أنظر: خروج ١٣: ١٤،٣٤: ٢٢). وأيضًا، لولا عبارة “مَنْ آمن بي، تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” التي رأى الإنجيليّ أنّها تتعلّق بقبول الروح، لكان هذا الفصل يبدو، ظاهريًّا أيضًا، لا علاقة له بعيدنا. هل هذه العبارة هي التي دفعت الكنيسة إلى اختيار هذه التلاوة؟ نعم، ولا. نعم، لِمَا تكشفه عن الحدث المرتقَب، وتاليًا لإعلانها أنّ يسوع نقل إلى ذاته رمزيّة الماء الذي كان الكهنة يأتون به من بركة سلوام في عيد الأكواخ، ليطوفوا به حول مذبح المحرقات. هذه العبارة “مَنْ آمن بي…” تحكم إقفال زمان اليهوديّة، وتشرّع زمان العهد الجديد. وهذا كلّه يتعلّق بالروح. أمّا الـ”لا”، فلأنّ كلّ ما في هذه التلاوة يختصّ بالعنصرة. فنحن لا يمكننا أن نقرأ فصلاً، يورد أقوال بعض أناس اعتبروا أنّ يسوع هو النبيّ وآخرين هو المسيح، على سوى تبليغ عيدنا اليوم. بمعنى أنّ وظيفة الروح الرئيسة، كما قال الربّ، أن “متى جاء هو، أي روح الحقّ، أرشدكم إلى الحقّ كلّه / لأنّه لا يتكلّم من عنده، بل يتكلّم بما يسمع / ويخبركم بما سيحدث / سيمجّدني لأنّه يأخذ ممّا لي ويخبركم به” (يوحنّا١٦: ١٣ و١٤). أي أنّ الروح هو الذي يقودنا إلى معرفة يسوع ربًّا وإلهًا. للناس أقـوالهم المختـلـفـة. أمّا الروح، فيكـشـف لنـا الحقّ وحده.

بعد هذه الأقوال المختلفة، يروي يوحنّا الإنجيليّ أنّ قومًا من الحاضرين كانوا يريدون أن يمسكوا يسوع، “ولكن لم يلقِ عليه أحدٌ يدًا”. وهذه، تتعلّق بالعنصرة أيضًا، تنبئ بأنّ الربّ سيبقى مهدّدًا، في هذا العالم، إلى النهاية. مَنْ ينقذ يسوع في الأرض؟! هذا هو السؤال الذي تطرحه هذه الآية. وسيجيب الروح: الذين يقبلون أن أحييهم فيه. واستكمالاً لظلم التهديد، يأخذنا الإنجيليّ إلى أنّ رؤساء الكهنة والفرّيسيّين سألوا خدّامهم: “لِمَ لم تأتوا به (يسوع)؟”، أي لِمَ لم تمسكوه؟ ويصدمنا جواب الخدّام أن: “لم يتكلّم قطّ إنسان هكذا مثل هذا الإنسان”. هذا اعتبره الرؤساء والفرّيسيّون ضلالاً مبينًا، وأعطوا أنفسهم مثلاً. “هل أحد من الرؤساء أو الفرّيسيّين آمن به”؟، أي إن لم يؤمنوا هم بيسوع، فليس من الشرعيّ أن يؤمن به أحد! هذا، في موقف الخدّام، يؤكّد أنّ الروح القدس سيفجّر المؤسّسة اليهوديّة من داخلها، ويسقط مثلَ الرؤساء والفرّيسيّين. بعد العنصرة، لن يكون للناس مثلٌ يقتدون به سوى كلمة المسيح المهدّد التي سيخصبها الروح في قلوب أحبّائه. وسيرتضي المؤمنون به ما هو أقسى من هذا التوبيخ الظاهر، سيرتضون الموت حبًّا بإله اختاروه سيّدًا وحيدًا لحياتهم. “لم يتكلّم إنسان مثله قطّ”، هكذا، بشكل قاطع، سيبقى المسيح يتكلّم في مَنْ حلّ عليهم روحه. وستغدو: “أمّا هؤلاء الذين لا يعرفون الناموس، فهم ملعونون”، أنّ مَنْ يعرفون “شريعة الحياة في المسيح”، سينالون بركات الله الآب.

في هذا الجوّ الذي يعجّ بالحقد على الربّ (وكنيسته)، يرينا الإنجيليّ أن ثمّة واحدًا من الفرّيسيّين كان بريئًا من غيّهم. “فقال نيقوديموس الذي جاء إليه (أي إلى يسوع) ليلاً وهو واحد منهم (أي فرّيسيّ): ألعلّ ناموسنا يدين إنسانًا إن لم يسمع منه أوّلاً، ويعلم ما فعل؟” (قابل مع: تثنية ١: ١٦). فشتموه بقولهم: “ألعلّك أنت أيضًا من الجليل؟”. وأكملوا: “ابحث وانظر، إنّه لم يقم نبيّ من الجليل”. إذا عدنا إلى الكتب القديمة، يصعب علينا تأكيد أنّ المسيّا لا يمكن أن يأتي من الجليل. فـ”ابحث وانظر” كلام مرتَجل يبيّن أنّ الرؤساء والفرّيسيّين لا يقدرون على سوى الهزء. موقف نيقوديموس يبرز اختلافًا جديدًا في المجلس اليهوديّ الأعلى. لقد برز اختلاف في الشارع قَبْلاً، ويبرز اختلاف على مستـوى آخـر هنـا. لقد أراد نيقـوديـمـوس ألاّ يـؤخـذ موقف مسبق من شخص على أساس أصوله. هل وصل إلى مسمعه نشيد: “في البدء كان الكلمة / والكلمة كان لدى الله / والكلمة هو الله / … والكلمة صار بشرًا” (يوحنّا١: ١ و١٤)، أي أنّ يسوع، إلهًا، ينحدر من أبيه السماويّ؟ هذا يعرفه قرّاء يوحنّا. وهذا شأن الروح القدس أن يؤكّده جهارًا.

أمّا المسيح، فكان حرًّا ينادي من بعيد: “أنا هو نور العالم. مَنْ يتبعني، فلا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة”. وهذا، في العنصرة، يعني أنّ الربّ، على كلّ اختلاف وهزء وارتجال، باقٍ يتكلّم، ويدلّ على نفسه. العالم ظلام. وثمّة

شخص واحد، في التاريخ، إن تبعناه، “يكون لنا نور الحياة”. لن يقول لنا الروح القدس شيئًا آخر. سيقول: اتبعوا النور، أي ادخلوا في عضويّة كنيسته، وأنا أعلّمكم كلّ شيء.

إذًا، هما قرائتان تفترض إحداهما الأخرى، لنعي أنّ عطيّة الروح هدفها تعليمنا أنّ الربّ الحيّ يريدنا أن ننقل حياته إلى عالم لا يثبت على نيّة. ثمّة، في غير زمان، أقوال تختلف في المسيح. مَنْ يردّ الجهل عن العالم؟ قراءتان تقولان: خذوا الروح القدس، اليوم. هذا هو إلهكم المحيي الذي أتى، ليدرك أهلُ الأرض المسيحَ الحيّ الذي يجري فينا أنهار ماء حيّ، هي تبليغ روحه الذي يقيمنا في نوره الأبديّ.

 

 

 

 

 

 

 

أحد العنصرة