يعاني الطفل أزمات نمو أساسية ثلاث ثم يبلغ خلال الطفولة الثالثة التي تمتد بين السن السابعة والسن العاشرة اتزاناً مستقراً ومتناسقاً. ويتمتع بين العاشرة والثانية عشرة بشخصية صغيرة نامية بانسجام ومتكيفة مع الوسط الطبيعي والإجتماعي المحيط بها، حتى أن هذا الوضع يسعد المربين ويبعث في نفوسهم الإرتياح.
بيد أن هذا الوقوف الظاهري في النمو ليس إلا وقفة قصيرة الأمد، فكأن طبيعة الطفل تتجمع وتتأهب للقفزة الأخيرة، هذه القفزة الجذرية الهائلة التي تفوق في صفاتها هذه أية مرحلة من مراحل النمو منذ الولادة. انها المراهقة تبتدئ، “ولادة ثانية” يبرز منها المراهق إلى حيز الوجود.
سوف نسعى في الأسطر التالية لبيان الصفات المميزة لهذه المرحلة الصاخبة التي تمتد بين السن الثالثة عشرة والرابعة عشرة وبين الثامنة عشرة حتى العشرين والتي تظهر بشائرها في فترة تحضيرية هي الفترة السابقة مباشرة للبلوغ.
الصفات المميزة للمراهقة
المراهقة سن حيرة يتردد المرء خلالها بين ما كان وما هو مزمع أن يكون، بين طفل الأمس ورجل الغد. فيأخذ الجسد بالتحول وتنمسح ملامح الطفل تاركة مكانها سيماء رجل وسيماء امرأة. وتعاني النفس أيضاً تحولاً ذا أهمية كبرى إذ تنضج وتتبين من خلال روح الطفل روح الرجل الراشد.
ولا عجب إذا وجدنا ان سن الحيرة هذه هي سن أزمات أيضاً، نرى الفتى خلالها مضطرباً يتوق إلى اتزان مقبل لن يتم في الواقع الا فيما بعد. وبانتظار هذا الإستقرار تهز الفتى قوى كبيرة تعمل فيه بالروح والجسد.
يأخذ الفتى تحت تأثير عمل الهرمونات المتزايد، في النمو بشدة، أولاً باتجاه الطول ومن ثم عرضاً وعمقاً، وتنضج الوظيفة التناسلية في غاية فترة هي فترة البلوغ وتبدأ الهرمونات الجنسية بالتأثير في الجسم عامة وعلى الجهاز العصبي بصورة خاصة، أما في النفس فان نزوات عنيفة حديثة العهد وذات شدة غير مألوفة حتى الآن تنوي تحطيم الاتزان السابق الذي كان قائماً بين الطفل وذاته وبينه وبين بيئته الإجتماعية.
وكما يتوقع المرء، تورث هذه الأزمة العنيفة اضطرابات وآلاماً جمة. وهذا ما يبرر تسمية سن المراهقة في مستهلها بسن الغلظة Age de disgràce وتتناول هذه الصفة الجسد والنفس معًا. أما الجسد فيكون عديم التناسق بسبب النمو السريع المتزايد، وأما النفس فيعتريها التشويش بسبب ما يشعر به الطفل من أن كل شيء في داخله ينحل ويتفكك.
نستطيع أن ندرك هكذا كيف تكون هذه السن سن قلق، كما يشير إلى ذلك أغسطينوس المغبوط في “اعترافاته” حين يتكلم عن “مراهقته القلقة”. فان الطفل أصبح سراً حياً أمام نفسه وأمام محيطه وهو يتألم لعدم تفهم الآخرين له ولكونه عاجزاً عن فهم نفسه أيضاً. ثم أن المراهق يشعر في قرارة نفسه برغبات غامضة توجه له نداءات قوية وخفية. وداعاً إذا أيتها الطفولة الوديعة الآمنة. ها هو منذ الآن يحل مكانك الجزع والقلق بنتيجة زوال ما كان عليه المرء وولادة الكائن الجديد.
المراهقة أيضاً هي السن التي يتم فيها اكتشاف “الأنا” وتكوّن الشخصية. ويلاحظ أن هذه الشخصية ترسم خطوطها الأولى خلال فترة الطفولة الثانية الممتدة بين السن الثالثة والسن السابعة. وأن سن المراهقة تأتي فتؤكد هذه الخطوط وتوضحها. وتوجه التحولات الطبيعية الحادثة في جسم المراهق انتباهه نحو جسده، فيولي هندامه عناية خاصة ويبتغي التأنق. كما تستيقظ فيه من جهة ثانية حياة داخلية مختلجة يلاقي في الإنغماس فيها لذة ممتعة ممزوجة بالقلق. وتتملّكه هذه الحياة بكلّيته حتى انها لتقطعه إلى حد ما عن العالم الخارجي. وهذا الوضع هو ما يسمى “بالإنطوائية” التي تعني الإنقطاع عن المحيط الخارجي والإنطواء على الذات.
ولنلاحظ جيداً أنه لئن كان المراهق يستطيع اكتشاف “الأنا” بهذه القوة ويقوى على الإنفراد بها بتلك الرغبة القوية، فانه، خلافاً للطفل الذي ينهمك بكل لحظة من لحظات وجوده المتتابعة، قادر على أن يزدوج بشعوره فيتأمل ذاته في خلوته بنفسه. انه قادر بالتالي على المسير صعوداً في مجال الزمن نحو الماضي المغرب وعلى الشعور بوحدة ذاته في الديمومة.
إلا أن هذا الإنطواء على الذات هو بعيد في الواقع عن الإنفصام (Autisme)الذي يظهر في بعض الحالات المرضية التي ينقطع فيها المريض عن العالم الخارجي فينطوي على أفكاره الخاصة يجترها ويتأمل فيها دون انقطاع. ولئن كان المراهق يعتني بحياته الخفية القائمة في ذاته بمحبة وعذاب، فانه يعي بالمقابل الأوضاع الإجتماعية ويشعر بضرورة ملحّة لتثبيت شخصيته في المحيط الذي يعيش فيه. ولكن هذا التثبيت بالنسبة لشخصية في طريق التكون هو في الواقع أخذ وضع سلبي ومناهض، فتكون المراهقة هكذا سن المعارضة أيضًا.
هذه المعارضة التي ظهرت سابقاً أثناء الطفولة تتجلى الآن بعنف واتساع، ويود الطفل لو ينسلخ عن طريقة الحياة والتفكير والإحساس التي يتبعها محيطه. انه في ثورة مكشوفة على السلطة والتقاليد العائلية، كل خضوع لسلطة خارجية يبدو له عبودية لا تطاق. انه يمقت الإمتثال للقواعد المألوفة ويبتغي الغرابة بأي ثمن. وإن ما يسمى بأزمة الأصالة عند المراهق (crise d’originalité juvénile) قد يحثه على إتيان الغرائب الشاذة رغبة منه في تعزيز نفسه واجتذاب الآخرين اليه.
ويبهره ما لاقاه من اكتشافات في عالمه الداخلي غير مرتقبة فيعتقد نفسه بسهولة كائناً فريداً غير اعتيادي. ويورث عنده عدم فهم بيئته له شعوراً بالعزلة مؤلماً يعمل على تذوقه بلذة مرة.
غير أن هذه الشخصية التي هي في طريق التكون ما تزال بعد ضعيفة غير مستقرة ينقصها الإتزان والتماسك. فالمراهق ينتقل بسرعة من الفرح إلى الحزن، من الحماس إلى الخمود، من الميل الشديد إلى عدم المبالاة، وبالإختصار من حالة توتر نفسي عظيم إلى حالة من الإنحطاط يرثى لها. ويعود كل هذا إلى ظروف فيزيولوجية هي الإضطرابات الناشئة عن البلوغ، وإلى ضعف الإرادة على الضبط تلك الإرادة التي لم يكتمل نموها بعد. كما يعود أيضاً إلى أن النفس المراهقة قد أصبحت واعية لذاتها فأسكرها هذا الاكتشاف فأخذت تجرب نفسها في سائر الإتجاهات وتحصي ثرواتها وينتج عن هذا حالات شاردة متتابعة تتعاقب على تلك النفس التي ترغب بأي ثمن أن تبقى متهيأة دوماًَ دون أن تفوتها أية إمكانية من إمكانياتها. هذه الإمكانيات التي تكثر عند المراهق لأن حياته الداخلية في جيشان دائم وتطفح منها ثروات وفيرة.
أما من الناحية العقلية فإن المراهقة هي سن الفكر إذ يكون المراهق قادراً على التأمل والتفكير لأنه يعرف كيف ينسلخ بالعقل عن الظرف الراهن، وهو يحب بالتالي أن يستعمل الأفكار المجردة حتى ولو انه لا يدرك معناها إدراكاً كليًا. يتفتح الفكر على العقلانية (Rationalité)وتستهويه المذاهب الفكرية، وتنمو عند المراهق الروح النقدية، فتراه يسرّ بالمناقشات التي لا نهاية لها. إلا أن التصلب الذي يبديه في هذه المناقشات ليس في الواقع تعلقًا بالحقيقة بقدر ما هو نتيجة لحب المناقضة وللرغبة في تعزيز الذات وسيطرتها.
ورغم ذلك، هنالك حقيقة للتدليل، هي أن المراهق يوخذ في هذه السن يحب الحقيقة. إذ ان هذه السن هي في الواقع اكتشاف القيم اكتشافاً واعياً ومثيراً. هي فترة الوثبات المجردة نحو المثل العليا، نحو الحق.
ويحترم المراهق”أنيته” فتراه يقصد الصدق الكلي مع ذاته ومع الآخرين وانه يتتبع الحقيقة بشغف ويود لو يعرف كل شيء. وينمو فيه الشعور بالجمال بشدة فيلعب دورًا أساسياً في حياته الداخلية. ان المراهق قادر على تذوق الطبيعة تذوقاً عميقاً وتهتز مشاعره أمام جمال الفن، ومحبته للنقاوة في الخلق تستحق الإعجاب وتبدو له المساومات والمبتذلات خيانات للمثل العليا وتجعله يحكم بقسوة على الراشدين الذين يرتكبونها. وفي طلبه الملحّ المتأجج للمثل الأعلى يبدي تجرداً نبيلاً، مبعداً باحتقار كل فكرة في المنفعة مبطنة سابقاً. ويفتتن بشدة العزم وقوة الإرادة ويأسره ما في هذا من توتر عنيف. إن الحيوية التي تفيض منه تخلق لديه حاجة لبذل النفس روحاً وجسداً في سبيل أية قضية تمت إلى المثل العليا بصلة. ولهذا يدعو “بول كلوديل” الحداثة بسن البطولة “l’âge de l’héroïsme” كما يسميها “فرنسوا مورياك” سن القداسة “l’âge de sainteté” إلا أنه علينا أن نقرّ بأن هذه الوثبات تقترن بالميل إلى ما هو تخيلي وروائي مما يجعلها في خطر الضياع والتبدد. ان مخيلة المراهق وهي في تأجج مستمر تستطيع أن تجرّ به إلى عالم الأوهام، حيث تُصدُّ قواه الحية ويُخدع تعطشه للمثل العليا لأن عالم الأوهام هذه هو في الواقع تزوير لهذه المثل العليا.
إن المراهق الذي يعذبه سر حياته الداخلية يصبح منفتحًا لعالم الأسرار. وتستطيع في هذه السن أن تبزغ حياة دينية شديدة، فالله بالنسبة للمراهق هو أعظم جواب لتعطشه للمثل العليا ولرغبته في النقاوة ومحبته للمطلق. ان الله هو الذي يستطيع المراهق أن يجد فيه وحدة كيانه الداخلي وأن يفقد فيه “الأنا” المضطربة ليلقاها ساكنة.
وتتجلى هذه الحاجة للخروج من الذات في الميل إلى الحب. ويصعد هذا الميل أثناء المراهقة من أعماق الكيان ويشترك فيه الروح والجسد. أما في الجسد فإن الأعضاء الناقلة للحياة تنضج وتنشأ إحساسات جديدة إحساسات مبهمة ومشوّشة تسترعي الفضول حتى ليخشى أن يصبح هذا الفضول مضرًا وخيم العاقبة. وأما في النفس فتظهر الحاجة إلى التعاطف خارج إطار العائلة، وينشأ جوع عظيم إلى الحنان والبذل. حينئذ يتجلى اهتمام كبير بكل ما له علاقة بالجنس الآخر، ويزيد في إحياء هذا الاهتمام إحياء شاذاً المشاهد والقراءات المثيرة للغرائز المنتشرة كثيراً في حضارتنا الحديثة، ويساهم في ذلك أيضاً تآمر المتقدمين في السن للسكوت عن هذه المواضيع وعدم طرقها معتبرين إياها من المحرمات. ان خطر هذا التوجيه الرديء كبير إلى حد بعيد لأنه -أي هذا التوجيه- قد يشوه فكرة الحب مدى الحياة ويذهب بنضارة النفوس الفتية. وعند المراهقين تنسكب القوة العاطفية الفياضة في الصداقة، وتكون المراهقة هكذا سن الصداقة. فيختار الفتى صديقاً له يضفي عليه كل الخصال التي يود أن يتحلى بها هو، وله وحده يفتح نفسه ليمده بثرواتها. وهكذا نرى أن المراهق لا يتعلق بشخص صديقه بقدر ما يتعلق بنفسه وليس صديقه سوى مرآة يتأمل فيها نفسه كمرتسم و كامتداد لأنيته. ويحدث أن يُمنى الفتى بخيبة مريرة حين تتضح له شخصية صديقه الحقيقية. يعلم الكل أن صداقات المراهقين كثيرًا ما تأخذ الأشكال العنيفة الخاصة بالحب وحده فتصبح خطيرة، ويمكن تفسير هذه الإنحرافات بأن التفريق بين الحياة العاطفية والحياة الجنسية لم يكتمل بعد عند المراهق.
إن المراهق شغف بما هو مطلق، يعد نفسه بأن تكون هذه الصداقات أبدية ويرسمها في المستقبل. انه قد استوعب فكرة الزمن، وبدلاً من أن يحيا دائماً كالطفل في اللحظة الحاضرة، تراه يتمتع بهذا البعد الرائع الذي هو الزمن فيتذوق ماضيه ويرنو بكلّيته إلى المستقبل. وفي هذا المستقبل الذي تضفي عليه مخيلته أزهى الألوان، يوطد المراهق العزم على تحقيق رغباته في النصر والحنان، والمثل العليا، وبذل النفس.
وفي هذه السن يطرح حتمًا على المراهق موضوع عمله في المستقبل إلا إذا كان آخرون قد رسموا له طريقاً معيناً. وهو يحلم بألمع المهن والمراكز ويستسلم لهذه الأحلام بلذة ممزوجة بالحذر، إلى أن تنضج شخصيته فتعين له بالإشتراك مع المناسبات والظروف مهنة يمتهنها.
أما المراهقات، فان رغبة الأمومة بصورة خاصة هي التي تفرض نفسها عليهن فرضاً بعد أن يبلغن نضوجاً معيناً.
موقفنا تجاه المراهقين
ماذا يكون إذاً موقفنا من سن المراهقة نحن الذين نهتم بالأحداث ونرغب بحرارة بنيانهم إنسانياً ودينيًا.
يجب علينا قبل كل شيء أن نقوم بمجهود لتفهمهم وهذا أمر جوهري. سيكون هذا المجهود شاقًا لأنه يتوالى على الشخصية المراهقة التي لم تنتظم بعد بصورة كافية، يتوالى عليها حالات متناقضة شاردة. وبالإضافة إلى ذلك لا نستطيع أن ندخل المراهق في إطار تلك الصورة المبسطة المألوفة لدينا عن الطفل وعن الراشد، وإذا حاولنا أن نتذكر مراهقتنا نجد أن الرؤيا التي نراها في نظرتنا إلى الماضي لن تقدم لنا سوى صورة شوهها “أنانا” الحاضر. ولنضف إلى ذلك أن ابتغاء الأصالة عند المراهق يصدم عقليتنا كراشدين بوصفه خلال بالنظام الذي تكيفنا معه، ويدفعنا إلى اتخاذ موقف حقد مؤسف نحو ذلك الفتى حتى وبالأخص إذا كان عزيزاً علينا إلى ذلك الحين. ان تفهمنا للأحداث ضروري لنا لنكسب ثقتهم. فلنتخذ إذا تجاههم موقفًا منفتحاً مرحبًا متجهًا نحو معرفة تزداد عمقًا بفعل التعاطف، هذه القدرة على الإشتراك في حياة الآخر والدخول إلى صميم سره. ولتكن بعيدة عنا الشكاوي الباطلة عن “السن الصعبة” ولنكن مقتنعين أن المراهقة هي أيضاً سن مؤثرة جديرة لأن تستدعي اهتمامنا الودي.
إذا كنا نريد أن نحافظ على التماس مع المراهقين وأن نستطيع التأثير عليهم بشكل مفيد، من الضروري أيضاً أن تكون سلطتنا عليهم مرنة. ان الشخصية المراهقة متريبة حذرة ومستعدة لأن تثور ضد المربين الذين لا يقدرونها حق قدرها ويريدون أن يفرضوا عليها ضغطاً ولو وديًا. يريد المراهق قبل كل شيء أن يعامل كرجل يتعاون مع الآخرين لا مسوق منهم. ويبلغ عنده الشعور بالإستقلال الأخلاقي المبعد لكل قاعدة خارجية درجة كبرى من الحدة. فلا نفرض عليه سلطتنا الا نادراً ولنسعَ قدر الإمكان أن نقنعه إقناعاً. ولكي نصل إلى هذه الغاية لدينا طريقة تفوق بفعاليتها أجمل الإرشادات: لنكن نحن نماذج وشهوداً لهذه الفضائل، لهذا الإتزان الذي نريد أن نكسبه للمراهق. فيتمثل بنا هذا المراهق المحمول كثيراً على الإعجاب بالآخرين، يتمثل بنا بإختيار حر دون أي شعور بالقسر قادر أن يجرح إحساسه المرهف، إذ يكون قد تعرف فينا على تشخيص مهما يكن غير كامل للقيم التي يحبها. ويشعر أن استقلاله قد أرضي لأنه لم يفعل سوى الإستماع إلى نداء صادر من أعماق كيانه وتحقيق أفضل ما هو في داخله. ان أفضل عمل تربوي في هذه السن هي الحضرة المشعة.
في هذه الفترة على الأخص يكون التأثير الشخصي في المراهق ضروريا لأن المراهق يأنف، في تفتح شخصيته الفتية. أن يُعتبر كوحدة متبادلة في مجموعة ما. انه يرغب، بسبب وعيه الحاد لفرادة “أناه” الآخذة في التكوّن، أن يحبى من الناس بالتفات خاص وأن يقيم الناس بينه وبينهم علاقات شخصية. لنعرف إذاً كيف نكون للمراهق أخوة كباراً وأخوات كبيرات، كيف نعير السمع لمساراته حتى عندما تكون ناقصة التعبير، وكيف نفهم بشكل خاطف الإستفهامات المترددة والمعبّر عنها بغير لباقة. لنكن مستعدين دوماً لننيل النفس القلقة التعزيز والإنعاش بابتسامة وتشجيع، لنقل للمراهق أننا مررنا بسنّه وعرفنا صعوباته وأنه يستطيع أن يساررنا دون أن يثير تعجبنا. غير أننا كي نسير في هذه المهمة على وجه حسن، ينبغي أن يكون لدينا كثير من الإخلاص والبذل والكثير من الحذاقة، والكثير من محبة المراهقة كما هي أيضاًَ. وينبغي أن تكون احتكاكاتنا الشخصية دائماً وبأي ثمن تعاونًا بين المراهق وبيننا نحن، تعاونًا يتعلق، فيما يخصنا منه، بالتوجيه المستتر وبإزالة الحواجز، لنعلم أن عون كبير للمراهق في وسط نضاله أن يعرف أن أخًا كبيراً له يسير إلى جنبه، يفكر فيه، يغتبط لإنتصاراته ويصلي من أجله إلى سيد الأعمار كلها.
ماذا يكون موقفنا من “أزمة الأصالة عند المراهق”؟
حينما تحدث هذه الأزمة- ويمكن أن تكون غير ظاهرة جلياً- لنتذكر انها مرحلة عادية وطبيعية للنمو، لنتتبع تطورها باهتمام ولنسعى لتوجيهها. لنتظاهر بأننا لا نلاحظ التصرفات الخارجية الشاذة المعدّة لإجتذاب الانتباه، لنساعد المراهق في جعل تأكيده لذاته داخليًا أكثر فأكثر حتى يؤدي هذا إلى شخصية أصيلة حقًا، لنجعله يدرك أن لله خطة خاصة معدة له وانه مدعو ليلعب في كنيسة المسيح دوراً لا يمكن أن يلعبه آخر، لنتدارك له قراءات تساعده على معرفة ذاته وتكبر فيه أحسن ما تنطوي عليه نفسه، إن الكتابات من حياة القديسين وخدام الإنسانية الكبار تستطيع كثيراً من توجهه في تكون شخصيته.
غير أنه يجدر بنا أن نذكر أن المراهق ينبغي أن ينمي شخصيته مطابقًا إياها أكثر فأكثر مع مقتضيات الحياة الاجتماعية، انه عليه أن ينتقل شيئاً فشيئاً من الأنانية الفتية إلى الغيرية، ومن الوضع الآخذ إلى الوضع الباذل كما يقول المحللون النفسيون. ينبغي أن يقوم توازن في الكائن الإنساني بين “غريزة التسلط” و”حاجة الشركة الإنسانية” كما يقول الدكتور أدلر. في سبيل تحقيق هذا الهدف المزدوج، أعني تفتح الشخصية واجتناب الفردية، معثرة المراهقة الخطيرة، يجدر بنا أن ننمي حياة الفرقة التي يحبها المراهق عفويًا. فالفترة الممتدة بين السن الحادية عشرة والسن السابعة عشرة قد سميت بحق “سن الزمرة”(L’âge de la bande). كل عضو يعمل في الفرقة ويشترك في الخلق، إلا أن هذا يتم حسب قواعد مشتركة وفي سبيل هدف مشترك. لندع فرق المراهقين تتشكل عفويًا حسب المقاربات الطبيعية. لنعطها استقلالاً خاصًا واسعًا في تنظيمها الداخلي وفي طرق نشاطها. لنعهد إلى كل مراهق بجزء من المسؤولية الرسولية، ولنسمح له بالمبادهة في مجال الفتح والشهادة المسيحيين. ولكن لنسهر على أن يكون نشاطه هذا، الذي يعينه على تعزيز شخصيته أحسن فأحسن، ناتجًا عن المثل الأعلى المسيحي للخدمة: “ما جئت لأُخدَم بل لأخدم”. ويكون لهذا النشاط الخلاق الذي يمارس اثار منها انه يحرر المراهق من الشعور بالنقص الذي يجد في المراهقة أرضًا ملائمة والذي هو منبع للإنطواء على الذات والخجل والتعدي وعدم الألفة.
نحن تجاه المراهق أمام حيوية حادة معتكرة. فلنساعده على تصعيدها بتوجيهها في اتجاه الوثبات النبيلة التي ترتسم فيه بقوة. لنغذِ إذا توقه إلى الحق والخير والجمال. لنفتح له في سبيل هذا آفاق المعارف الإنسانية ساهرين على اهتمامه بها شخصيًا. ولنتدارك له بواسطة الرحلات إقامات في القرى وسبلاً ليستغرق في الطبيعة التي يحب فيتشرب بها في انخطاف نحو النور والجمال. لندربه على التفتح للفنون، للشعر الجميل مثلاً، وخاصة لتلك الموسيقى التي تتسرب حتى أعماق النفس فتأتي إليها بأنفاسها المنقية. لنحول رغبته في التسلط نحو ضبط النفس وفتح قمم الفضيلة العالية.
بما أن الإهتمامات الجمالية تتبوأ في هذه السن مكانة كبيرة الأهمية ولها قيمتها حتى في الفكرة التي يكونها المراهق عن الفضيلة، يجدر بنا أن لا نهمل العودة إليها كثيرًا وتغذيتها. لنوحِ للمراهق أن يجعل من حياته شيئاً جميلاً. نستطيع أيضاً أن نستدعي الشعور بالشرف الذي يولد في هذه الفترة من جراء اكتشاف المراهق شخصيته الفتية والإحترام الذي يكنه لها. يمكن لهذا الشعور أن يكون دافعًا كبيراً على الإكتمال الشخصي.
ولكن فوق كل شيء، لنسهر على أن يعي المراهق الله ينبوعاً أولاً وغرضاً اسمى لكل ما يتوق اليه من الحق والخير والجمال، وأن يشعر بالله وكأنه “أشد قلبية إليه من نفسه” (Plus intime à lui que lui-même) حسب تعبير أوغسطينوس المغبوط، لنساعده على المضي بعمق وعلى النضوج في وثبته الروحية التي هي طبيعية في هذه السن، بإعطائه أهدافاً إيجابية ليحققها محبة بالله، وبتذكيره بضرورة تجسيد هذه الوثبة في أبسط حقائق حياته اليومية. لنساعده على أن يكتسب حياة دينية عميقة بقراءة الإنجيل بصورة مستديمة وبالإشتراك المتكرر بالقداس الإلهي والأسرار، وعلى أن تكون هذه الحياة نقية من أي عنصر من عناصر الميوعة، ومساعِدة على اقتلاع المراهق من فرديته الضيقة، وجاعلة إياه شريكاً بالروح القدس في حياة جسد المسيح السري.
أما معلومات المراهق الدينية فمن الضروري أن يكون لها هيكل فكري متين ومناسب للروح النقدية ولمحبة التجريد والمذاهب التي تنمو آنئذ عند المراهق. ان تفاوتاً بين تعليم دنيوي متين ومعرفة دينية سطحية خطر على المراهق. المسألة كما أحسها بقوة فرنسوا مورياك هي أن نكوّن أذهاناً مسيحية (Intelligences chrétiennes).
لنيسر الصداقات الفتوية بشرط أن تساعد المراهق على الخروج من ذاته، حسب هذا الدستور الجميل لسانت أكسوبيري: “ليست الصداقة أن ننظر أحدنا إلى الآخر، بل أن ننظر معًا بإتجاه واحد”. لننيرنّه بفطنة في اختيار الصديق لأن الصداقات تستطيع أن تترك في العقلية اللينة التي لهذه السن آثاراً عميقة. لنعرف كيف نريه في المسيح الإله، الذي بتجسده شاء أن يكون مماثلاً لإخوته في كل الأمور، المثل الأعلى للصديق، هذا المثل الأكثر تفهمًا والأكثر محبة. وأن نريه فيه أيضاً الرئيس الذي يتبعه المرء، مقوداً من حماس مثير، في المغامرة الكبرى التي يخوضها بكلّيته، متحملاً على حد قول فرنسوا مورياك “أكبر مجازفة، مجازفة البذل الكامل”. إن المغامرة الروحية قادرة كل القدرة على استخدام الحاجة للمشاكسة عند المراهقين والحيوية التي يشعرون بكثرة امتلائهم بها وحاجتهم القوية إلى العطف إذ إنها تستطيع أخذ هذه المشاعر كلها وتصعيدها. في هذه المغامرة ينبغي على المراهق أن يقود الصديق الذي اختاره وأن يدع نفسه يقاد منه، على نهج ذاك الزوج العجيب المؤلف من طالبين إثنين أصبحا فيما بعد القديس باسيليوس الكبير والقديس غريغوريوس النازينزي.
أما في تلك الدعوة للحب التي يشعر بها المراهق تصعد من أعماق كيانه، فلنساعده ليكوّن لنفسه وعيًا واضحًا ومستقيمًا عنها في الصفاء المشعّ الإلهي. ليعلم المراهق أن الله محبة وأن ليس محبة حقيقية إلا فيه. هكذا تفقد هذه الكلمة أصداءها الملتبسة المعنى وطعمها الباعث على الإضطراب كثمرة ممنوعة. لنساعد المراهق بكثير من الذوق الصائب على فهم هادئ للمهمة الكبيرة الجميلة المعهودة إليه من جراء نضوج الوظيفة الناقلة للحياة عنده. لنغرس فيه بالدرجة الأولى فكرة المحبة المسيحية “L’amour-agapé” التي تفرغ ذاتها وتعطي ذاتها بصورة مستديمة: “ليست محبة أكبر من أن يعطي المرء حياته عن الذين يحبهم”. لتظهر له العفة الصعبة كفترة ابتداء للحب الحقيقي، ولتُنفق قواه العاطفية بانتظار ملء نضوجها في بذل يومي للذات (في الحركة- في المهنة… مثلاً) فيكون هذا تحضير للنكران الذاتي الذي ستتطلبه العائلة فيما بعد.
ويقودنا هذا البحث إلى مسألة الدعوة. هنا أيضاً تترتب علينا مسؤوليات.
لنساعد المراهق قدر المستطاع على أن يعي امكانياته وأذواقه. لننمِّ فيه الحسّ بالمسؤوليات التي تنتظره. إن المخلوق الفتي الذي يستعجل في هذه السن ليملأ مكانته كرجل يكون قادراً على الفهم. وإن كان لنا السرور والشرف بأن نستمع لإباحة دعوة إكليريكية ورهبانية، فلنعبّر للمراهق عن سرورنا ولنحثه على الصلاة وعلى أن يكون وفياً في صغائر الأمور، حتى إذا اختبر دعوته وفهم انها لم تكن حماساً عابراً، يستطيع في اليوم الذي يريده الرب أن يتبعه بحرية وسخاء.
هذه بعض القواعد في السلوك تستطيع أن توحي لنا بعض الإيحاء في مهمتنا الصعبة لتثقيف المراهقين. فلنثق بهم لأن سنهم تفيض غنى ووثبات. إن حركتنا تعطيهم في صفوفها مكانة أولى وهم يعطونها بالمقابل كنز حماسهم البديع وقواهم الجديدة ومثلهم العليا. فوق كل شيء، لنعهد بهم إلى الرب لأن نظرته الإلهية وحدها تستطيع أن تنفذ إلى سرهم ونعمته وحدها تستطيع أن تغمر أعماق شخصيتهم الخفية وتجليها. لنسأله أن يساعدهم ليحفظوا حياتهم كلّها هذه الرؤيا الأولى للحياة مشعة لها صفاء الفجر، وأن يزيدوها غنى شيئاً بعد شيء من اختباراتهم الإنسانية، ولنطلب إليه أن يساعدهم أيضاً على الخروج من الوحدة المنكمشة ليصلوا إلى شركة تزداد عمقًا معه ومع أخوتهم.
د. كوستي بندلي
كُتب هذا المقال أصلاً بالفرنسية
وتلطّف بنقله إلى العربية الصديقان
جورج خضر (المطران جورج حاليًا) وفؤاد مالك.
“مجلة النور”، العددان 4 و5/6، 1953