“موافقاً للحقيقة التي في يسوع”
(افسس 4: 21)
يُفترض بكهنة المسيح ألا يبشِّروا، من منبر الوعظ على الأقل، بأفكارهم الخاصة لأن الأيدي تُوضع عليهم في الكنيسة للتبشير بكلمة الله. فيُسلَّم إليهم إنجيل يسوع المسيح وتُودع عندهم الرسالة الخالدة والفريدة. لذلك يُنتظر منهم نشر “الإيمان الذي أُعطي للقديسين” وحفظه. لكنَّ التبشير بكلمة الله يجب أن يكون “فعلاً” وأن يحمل القناعة والولاء لكلِّ جيل ولكلِّ جماعة. ولذلك قد تُصاغ كلمة الله من جديد، إذا ما تطلَّبت الظروف ذلك. ولكن يجب المحافظة، قبل كل شيء، على هويَّة هذه الرسالة.
على المرء أن يتحقَّق أنه يبشِّر بالإنجيل نفسه الذي سُلَّم إليه وأنه لا يأتي “بإنجيل غريب” من عنده، لأنه لا يقدر أن يكيِّف كلمة الله بسهولة، وفق عادات عصر سريعة الزوال ووفق مواقف عصر معيَّن، بما في ذلك عادات عصرنا ومواقفه. فكثيراً ما ننزع، مع الأسف، إلى قياس كلمة الله بمقياس منزلتنا وقامتنا، بدل أن نفحص أفكارنا ونقيسها بمنزلة المسيح الرفيعة، إذ إن “الفكر الحديث” نفسه خاضع لحكم كلمة الله.
الإنسان المعاصر والكتاب المقدس:
إن المصاعب الكبيرة تنشأ من ذات هذه النقطة. فأكثرنا فَقَدَ استقامة الفكر الكتابي المفقود، رغم محافظته على بعض أساليبه. إن الإنسان المعاصر يتذمَّر كثيراً، لأن الحقيقة الإلهية تُقدَّم له في مصطلح “قديم” – أي في لغة الكتاب المقدس – لم يعد يستخدمه بشكل عفوي. ولذلك اقترح بعضهم مؤخراً أن “ينزع العنصر الأسطوري” (demythologize) عن الكتاب وأن تُبدَّل أساليبه القديمة بأخرى حديثة. لكن السؤال الذي لا نقدر أن نهرب منه هو: هل لغة الكتاب المقدس غلاف خارجي عَرَضي تستخرج منه “أفكار أبدية”، أم أنها عربة أبدية للرسالة الإلهية التي أُعلنت مرّة وإلى الأبد؟
إننا سنقع في خطر خسارة فرادة كلمة الله أثناء عملية “إعادة التفسير” المستمرة. ومهما كانت الطريقة، فكيف نقدر أن نفسِّر الكتاب المقدَّس ما دمنا قد نسينا لغته الأصلية؟ أوَلا تنبعث فينا ثقة أكبر، إذا ما وجَّهنا تفكيرنا إلى البنى الفكرية الموجودة فيه، وتعلَّمنا لغته من جديد؟ إن الإنسان لا يقدر أن يتلقَّى الإنجيل ما لم يتب، ما لم “يغيِّر ذهنه”، لأن التوبة (metanoia) في لغة الكتاب لا تعني الإقرار بالخطايا والندم عليها فقط، بل تعنى “تغيير الذهن”، أي تغييراً عميقاً لفكر الإنسان وموقفه العاطفي وتجديد ذاته الذي يبدأ بنكران الذات ويتحقَّق بختم الروح القدس.
إننا نعيش اليوم في عصر من الفوضى الفكرية والتفسّخ. ولعلَّ موقف الإنسان المعاصر غير محدَّد بعد، لأن تعدَّد أفكاره تبعده عنه كل أمل في التوفيق بينها. ولذلك قد يكون “الإيمان الذي سُلِّم إلى القديسين” المَعْلَم الوحيد الذي يمكنه أن يرشدنا وسط الضباب الفكري في عصرنا اليائس، على الرغم من أن هذا الإيمان سيظهر لنا مُماتاً ومهجوراً مثل لغة الكنيسة الأولى، إذا ما حكمنا عليها بمقاييسنا الزائلة.
بشِّروا بدساتير الإيمان:
بِمَ سنبشّر؟ وبِمَ سأعلِّم أبناء عصري “في عصر كهذا”؟ لا مجال للتردد: إني سأبشِّر بيسوع مصلوباً وقائماً من بين الأموات وسأعلِّم الذين دعاني الله أن أنقل لهم رسالة الخلاص كما وصلتني عبر التقليد غير المنقطع في الكنيسة الجامعة. لن أحصر نفسي في تعاليم عصري، أي أنني سأعلِّمهم “عقائد دستور الإيمان”.
أَعْلَم عِلْم اليقين أن دساتير الإيمان عقبة أمام الكثيرين في جيلنا الحاضر، “لأن الدساتير رموز تُحترم قدر الاحترام الأعلام البالية على حوائط الكنائس المحلِّية ولأنها مفيدة لنضال الكنيسة اليوم في آسيا وأفريقيا وأوربا وأميركا بمقدار ما يكون الفأس أو “القرابينة” مفيدين في يدي جندي حديث”. هذا ما كتبه منذ سنوات باحث بريطاني شهير وقسيس ورع. وقد لا يكتب اليوم هذه الكلمات، لكننا نجد من يتبنَّى من أعماق القلب تصريحاً كهذا لأنه يجب علينا ألاَّ ننسى أن دساتير الإيمان الأولى تستخدم أسلوب الكتاب المقدس مما يجعلها صعبة على الإنسان المعاصر.
ما زلنا إذاً نواجه في أيامنا المشكلة نفسها: ماذا نقدر أن نقدِّم بدل الكتاب المقدَّس؟ أنا أُفضِّل لغة التقليد، لا “لمحافظةٍ” كسولة أو ساذجة ولا “لطاعةٍ” عمياء “لسلطان خارجي”، بل لأنني لا أقدر أن أجد طريقة أفضل للتعبير. إنني مستعد أن أعرِّض نفسي لتهمة لا مفرَّ منها وهي أنني متعلق “بكلِّ قديم” ومؤمن “بالعصمة الحرفية” (fundamentalist)، لكنني سأجيب عن هذه التهمة وأقول إنها خاطئة ولا مبرِّر لها، لأنني أحافظ على “عقائد الإيمان” وأتمسَّك بها بكلِّ ضمير حي من كل قلبي، وأدرك عن طريق الإيمان أنها تلائم دائماً كل الأمكنة والعصور، بما في ذلك “عصر كهذا”، وأؤمن بأنها قادرة على إعادة جيل يائس كجيلنا إلى الشجاعة والرؤية المسيحيتين.
التقليد حيّ:
“ما الكنيسة متحفاً للودائع الميتة أو جمعية للبحث العلمي”، لأن ودائعها حيَّة (depositum juvenescens) على حدِّ تعبير القديس ايريناوس. فإيمانها ليس من بقايا الماضي، بل هو “سيف الروح”. وما يجب أن بنشِّر به اليوم هو إعادة العالم إلى المسيحية. فهو المخرج الأوحد من هذا الطريق المسدود الذي سيق إليه العالم من جرَّاء إخفاق المسيحيين أن يكونوا مسيحيين حقيقين.
إن العقيدة المسيحية لا تعطي جواباً مباشراً على أيِّ سؤال عملي في حقل السياسة أو الاقتصاد، تماماً كما يفعل إنجيل المسيح. غير أن تأثيرها في مجرى التاريخ الإنساني كان عظيماً. فإن الإعتراف بكرامة الإنسان وقيمته وبالرحمة والعدالة تنبع كلُّها من الإنجيل. حتى إننا لا نقدر أن نبنى العالم الجديد إلا ببناء الإنسان الجديد.
ماذا عنى مجمع خلكيدونية؟:
ما هو المدلول الحقيقي لعبارة “وصار بشراً”؟ وبكلام آخر، من كان يسوع، المسيح والرب؟ وماذا عنى مجمع خلكيدونية عندما قال إن المسيح “إنسان تام” “وإله تام”، ولكنه “أقنوم واحد”؟ ينزع “الإنسان المعاصر” إلى انتقاد هذا التحديد الذي أورده مجمع خلكيدونية، لأنه يخفق في أن يحمل له أي معنى. فما هذه “اللغة الإيمانية” إلاَّ قطعة أدبية عنده، ولعلَّها لا تعني له شيئاً. إنني أعتقد بأن كلَّ هذا الموقف خاطئ، لأن “تحديد” هذا المجمع ليس تحديداً ما ورائياً. ولم يُعتبر هكذا قط، لأن سرَّ التجسد ليس “معجزة ميتافيزيقية”. إن تحديد مجمع خلكيدونية تحديد إيماني، ولذلك لن يُفهم إذاً ما اقتُطع من خبرة الكنيسة. فهو “تحديد وجودي”.
إن صيغة مجمع خلكيدونية كِفاف عقلي للسرّ الذي يُدرَك عن طريق الإيمان. فمخلصنا ليس إنسان فقط، بل الإله نفسه. هنا يقع التشديد الوجودي لصيغة هذا المجمع. إن مخلصِّنا الذي “تنازل”، والذي “صار بشراً” قد وحَّد نفسه مع الناس مشاركاً في الحياة والطبيعة الإنسانيتين. فالمبادرة لم تكن إلهية فقط، بل أن زعيم الخلاص كان شخصاً إلهياً. وكمال طبيعة المسيح الإنسانية يشير إلى حقيقة هذا الاتحاد الخلاصي واستقامته، أي إن الله دخل التاريخ البشري وصار شخصاً بشرياً.
هذا الأمر يبدو غريباً ومحاطاً بسرٍّ. “ولا شك أن سرَّ الألوهة عظيم، لأن الله ظهر بالجسد”. لكنَّ هذا السرَّ إعلان إلهي، لأن سرّ شخص الله أُعلن في التجسد. فاهتمَّ الله بمصير الإنسان إهتماماً صميماً (وخاصة مصير كلٍّ من “هؤلاء الصغار”)، حتى إنه دخل بشخصه فوضى الحياة الضائعة وبؤسها. وما العناية الإلهية مجرَّد هيمنة قوية على الكون تصدر عن بعد، بل إفراغ الله لمجده “وتجرّد عن ذاته”. فهناك علاقة شخصية بين الله والإنسان.
مأساة تحت ضوء جديد:
تظهر المأساة الإنسانية كلّها تحت ضوء جديد، لأن سرّ التجسد كان سرّ المحبة الإلهية، سرّ الاندماج الإلهي في الإنسان الضال. قمة هذا التجسد هو الصليب الذي كان نقطة تحوِّل في مصير الإنسان. والسرّ الرهيب لهذا الصليب لا يُفهم إلاَّ من منظور خريستولوجي واسع، أي إذا آمنّا بأن المصلوب كان حقاً “ابن الله الحي”. وموت المسيح كان دخول الإله شخصياً بؤس الموت الإنساني وشقاءَه وكان نزولاً إلى الجحيم. وهذا يعني نهاية الموت وتدشين حياة الإنسان الأبدية.
مذهلٌ الترابط الذي نجده في جسم العقيدة التقليدي والذي لن ندركه إلاَّ بالإيمان الحي وبالمشاركة الشخصية مع الإله الشخصي. فالإيمان وحده يجعل الصيغ الإيمانية مقنعة ويعطيها الحياة. “يبدو هذا الأمر غريباً، لكنَّ خبرة متتبعي الأمور الروحية تقول إن الإنسان لا يكتسب فائدة من الأناجيل ما لم يكن أولاً في حب مع المسيح”، لأن المسيح ليس نصّاً، بل شخصاً حيّ يقيم في جسده، أي في الكنيسة.
نسطورية جديدة:
يبدو اقتراح التبشير بعقيدة خلكيدونية في “عصر كهذا” سخيفاً. لكنني أؤمن بأن الحقيقة التي تشهد لها هذه العقيدة بنفسها قادرة على أن تغيِّر نظرة الإنسان المعاصر الروحية، لأنها تعطيه حرَّية حقيقية. فالإنسان ليس وحيداً في هذا العالم، لأن الله يهتم بأحداث التجسد. وهذا ما يبطل الزعم بأن المجادلات الخريستولوجية لا تمتُّ بصلة إلى الأوضاع الحاضرة. والحق، أنها تتردَّد وتتكرَّر في خلافات عصرنا. فالإنسان المعاصر مجرَّب بوعي وبغير وعي في الوصول إلى التطرف النسطوري، أي في عدم إلتزام التجسد بجدٍّ واهتمام. فهو لا يجرؤ على الإيمان بأن المسيح شخص إلهي، ولذلك يطلب مخلِّصاً إنسانياً يتلقى العون من الله. إنه يصرف إهتمامه إلى السيكولوجية الإنسانية عند المخلِّص، ولا يبالي بسرّ المحبة الإلهية، لأنه في التحليل الأخير يؤمن بكل تفاؤل بمنزلة الإنسان الرفيعة.
مونوفيزية جديدة:
في النقيض الثاني هناك اليوم إحياء للميول “المونوفيزية” في اللاهوت والدين، وذلك عندما يُعتبر الإنسان كائناً سلبياً، أي عندما يُسمح له أن يسمع ويصغي ويأمل فقط. فالتوتر القائم اليوم بين “التحرريَّة” (Liberalism) والأرثوذكسية الجديدة (Neo-orthodoxy) هو تكرار للصراع الخريستولوجي القديم على صعيد وجودي جديد وبطريقة روحية جديدة. وهذا الصراع لن يُحسم في الحقل اللاهوتي إلاَّ باكتساب رؤية أوسع.
كانت بشارة الكنيسة الأولى لاهوتية، ولم تكن تأملاً فكرياً عقيماً. فالعهد الجديد كتاب لاهوتي. ولذلك كان إهمال اللاهوت في التربية المعطاة للعلمانيين في أيامنا هذه مسؤولاً عن فقدان الوعي الديني عندهم وعن الإحساس بالخيبة التي تسود المزاج المعاصر. ما نحتاج إليه في المسيحية “في عصر كهذا” هو اللاهوت الوجودي السليم، لأن الإكليروس والشعب يتعطشان إلى اللاهوت. فالناس يلجأون إلى تبني “إيديولوجيات غريبة” ويدمجونها بمعتقدات إيمانية تقليدية، لأننا لا نبشِّر عادة باللاهوت الصحيح. واللجوء إلى “أناجيل منافسة” في أيامنا يعود إلى كونها تقدِّم لاهوتاً كاذباً ومنهجاً عقائدياً منحولاً. ومع ذلك يتقبلها بسرور أولئك الذين لا يجدون أي لاهوت في المسيحية المخفّضة و”المنقوصة” ذات الأسلوب “الحديث”. قال لاهوتي إنكليزي عن الخيار الوجودي الذي يواجهه الكثيرون في أيامنا إنه خيار بين “العقيدة والموت”. وبما أن الزمن اللاعقيدي وعصر الفلسفة الذرائعية قد ولّيا فيجب على الكهنة أن يبشِّروا من جديد بعقائد الإيمان أي بكلمة الله.
الأزمة المعاصرة:
إن المهمة الأولى للمبشّر في عصرنا هي “إعادة بناء الإيمان” الذي لا يتحقق بمسعى عقلي، لأن الإيمان مصوَّر جغرافي عن العالم الواقعي يجب ألاَّ نخلطه بالواقع. وبما أن الإنسان المعاصر متعلِّق بأفكاره وقناعاته ووجهات نظره وردَّات فعله فقد عجَّلت الإنسانويّة (Humanism) في حدوث الأزمة، التي يرجع سببها إلى إعادة اكتشاف العالم الواقعي الذي نؤمن به. والوجه الحاسم لهذه الواقعية الروحية الجديدة هو اكتشاف الكنيسة من جديد، حيث لا يُحجب الحقيقية وراء حائط أفكارنا، بل تكون سهلة المنال. وهكذا يدرك الإنسان أن الكنيسة ليست جماعة مؤمنين فحسب، بل “جسد المسيح”. وهذا اكتشاف لأبعاد جديدة ولحضور دائم للمخلِّص الإلهي وسط قطيع المؤمنين. هذا الاكتشاف يلقى فيضاً من النور على بؤس وجودنا المفكَّك في عالم قد تعلمن “وتَدَنْيا” كلياً. أخذ كثيرون من الناس يوقنون أن الحلّ الحقيقي لكل المشاكل الاجتماعية يكمن في إعادة بناء الكنيسة. لذلك، يجب علينا أن نبشِّر في “عصر كهذا” “بالمسيح التام”، “بالمسيح والكنيسة” touts Christus, caput et corpus على حد تعبير أوغسطين. قد يكون هذا النوع من التبشير غير مألوف، لكنني أعتقد بأنه الأسلوب الأوحد للتبشير الفعلي بكلمة الله في عصر من اليأس والتشاؤم كعصرنا الحاضر.
صلة الآباء الوثيقة بعصرنا:
يعتريني شعور غريب عندما أقرأ مؤلفات آباء الكنيسة، إذ أجدها وثيقة الصلة بمشاكل عصري، أكثر من مصنفات اللاهوتيين الحديثين، لأنهم كانوا يتصارعون مع المشاكل الوجودية ومع إعلانات الله الأزلية التي دُوِّنت ووُضعت في الكتاب المقدس. إنني أجازف باقتراح يقول إن القديس أثناسيوس والمغبوط أوغسطين هما عصريان أكثر بكثير من لاهوتيين معاصرين. والسبب بسيط: فهما يتناولان الأمور نفسها ولا يتناولان الخرائط ولا يشدِّدان على معتقدات الإنسان قدر تشديدهما على هبات الله الممنوحة للإنسان. واجبنا في “عصر كهذا” أن نوسِّع منظورنا ونعترف بمعلِّمي الماضي ونحاول أن نجد تأليفاً وجودياً للخبرة المسيحية.
كُتِبَ هذا المقال عام 1951
الأب جورج فلوروفسكي
من كتاب :الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد