عندما يُحكى عن “التدبير” يتبادر الى الذهن فوراً أن رجال الكنيسة يستعملونه لغايات ومآرب شخصيّة أو سياسية. هذا خطأ شائع وعدم إنصاف بحقّ هؤلاء، وهنا لا يجوز التعميم بأي حال. فقد اعتمدت الكنيسة بعض التدابير الرعائية في مواضع وتواريخ محدّدة لم يُمسّ فيها الإيمان أو العبادة، بل كانت هذه التدابير وسيلة مفيدة للاتّفاق والوحدة.
لم يكن لفظ “تدبير” في البدء لفظاً قانونياً، ولكنه كان يشير الى تدبير الله من أجل خلاص العالم، فيقول الرسول بولس: “فأطلعنا على سرّ مشيئته أي ذلك التدبير الذي ارتضى أن يعدّه في نفسه منذ القدم ليسير بالأزمنة الى تمامها فيجمع تحت رأس واحد، هو المسيح، كلّ شيء ما في السموات وما في الأرض” (أفسس 1: 9-10). وهذا التدبير الخلاصي قد عهد به الله الى البشر، فالرسول نفسه يعتبر أنّ بشارته هي وكالة من الله: “فلو كنت أفعل ذلك طوعاً، لكان لي حقّ في الاجرة. ولكن إذا كنت أفعله ملزماً، فذلك بحكم وكالة عهدت إلي” (كورنثوس الأولى 9: 17)، كما يقول في مكان آخر من الرسالة عينها: “فليعدّنا الناس خدماً للمسيح ووكلاء أسرار الله” (4 :1).
وبكلام أوضح يقول الرسول الإلهي: “لأنّي صرت خادماً لها بحسب التدبير الإلهي الذي عهد فيه إليّ من أجلكم، وهو أن أتّم التبشير بكلمة الله” (كولوسي 1 :25). تجدر الإشارة إلى أن لفظَي “تدبير” و”وكالة” الواردان في الآيات أعلاه هما في اليونانية لفظ واحد “إيكونوميا”. ويؤكد الرسول أن الأسقف، كونه “وكيل الله” (تيطس 1: 7)، عليه أن يكون بريئا من اللوم ومحبّاً للغير…
في القرنين الرابع والخامس كان يشير لفظ “تدبير” عند آباء الكنيسة إلى تجسّد الكلمة، كما كان يشير في اللغة القانونية آنذاك الى تدابير رعائية تتغاضى عن بعض الأمور غير الغقائدية، رحمة بالمؤمنين وضعفهم. ولنا خير مثال القديس باسيليوس الكبير الذي قال ردّا على الذين كانوا يعيدون معمودية الهراطقة: “إذا كان ذلك يشكّل عقبة أمام تدبير الله للعالم، فعلينا الاقتداء بتقليد الآباء الذين قادوا الكنيسة”، والتقليد المقصود هنا هو ما كان متّبعا في آسيا الصغرى، حيث كانت العادة ألا تُعاد معمودية الهراطقة. وفي كل حال، يبرّر القديس باسيليوس تدبيره هذا بالقول إنّ القساوة قد تكون سبب ابتعاد البعض عن سكّة الخلاص.
مثال آخر لممارسة التدبير نجده في الزواج الثاني الذي سمحت به الكنيسة. مع العلم أن الزواج الأول، ولو انتهى بحكم موت أحد الزوجين أو بالطلاق، هو الزواج الوحيد الذي يدوم حياة أبدية. فالزواج ليس عقداً ينتهي بافتراق الزوجين بل هو علاقة أبدية لا ينهيها الموت. تتساهل الكنيسة إذاً في أمر الزواج الثاني لأنها تعتقد أنّه أقلّ ضرراً في بعض الحالات من عدم الزواج.
ثمّ أخذ لفظ “التدبير” معاني قانونية صريحة، وبخاصّة في الغرب حيث أصبح التدبير نوعا من الاستثناء القانوني سمحت به السلطات الكنسية. اما في الشرق فليس التدبير استثناء قانونيا، بل حكم فاصل في المشاكل التي تعتري المؤمنين من أجل خلاصهم، حكم يندرج في إطار التدبير الإلهي. وكما يقول البطريرك القسطنطينينيقولاوس (القرن العاشر): “يستلهم التدبير محبة الله للبشر”.
لقد شهدت الكنيسة خلال تاريخها أسلوبين فيما يخصّ التدبير: أسلوب متشدّد برز بخاصة في الأوساط الرهبانية وأسلوب متساهل طغى في الأوساط الكنسية. وقد اعترفت الكنيسة بهذين الاتجاهين واعتبرت المنتمين اليهما قديسين وأبراراً، ذلك أنّ تطبيق الإنجيل يسمح بتفسيرات عدّة، بالإضافة الى أنّه كان يسيطر عليهم جميعا هاجس الحفاظ على الإيمان المستقيم. لقد كان الكلّ متفقا على القول مع القديس افلوجيوس (+607) بطريرك الاسكندرية: “نستطيع ممارسة التدبير عندما لا يتعارض ذلك مع عقيدة التقوى”. معنى هذا أنّ الكنيسة استعملت التدبير في حقل الأمور التطبيقية للإيمان، من دون أن تتساهل في الأمور التي تخصّ الحقيقة الإلهية.
www.orthodoxonline.org
التدبير في الكنيسة