تخبرنا الأرقام أشياء كثيرة كدرجات الحرارة، وعلامات المدرسة، وأسعار الأشياء، والوحدات الحرارية التي صارت هوس الكثيرين، وسرعة السيارة التي صارت أحد أوائل المخاطر التي تهدد حياة شبابنا، والوقت، والتاريخ، والعمر، و أموراً كثيرة غيرها. لقد بتنا نلجأ إلى الأرقام تقريباً في كل شيء: لنميّز بين الناجح والراسب، بين الرابح والخاسر، بين المقبول والمرفوض، بين الغالي والرخيص. وبلغ الأمر بالبعض أن يستعملوا الأرقام لتحديد أشياء ذات طبيعة يصعب قياسها، كالصداقة على شبكات التواصل الاجتماعي، والجمال في مسابقات الجمال، والرحمة في برامج التبرعات التي تملأ التلفزيونات خاصةً في فترة الأعياد… صارت الدنيا كلها أرقاماً بأرقام.
هل الكنيسة بمنأى عن ذلك؟ طبعاً لا. والمقصود هنا ليس الميزانيات والموازنات وشؤون الإدارة. المقصود هو الممارسات. فمن جهة، يتزايد الاهتمام بالإحصائيات، فتُطرَح أسئلة من نوع: مساحة الكنيسة، عدد العائلات في الرعية، عدد المرتلين، ومعدل الحضور في القداس، عدد المعتمدين، عدد القداديس… ما الفكرة التي تعطينا إياها هذه الأرقام؟ هل يُقاس نجاح الرعية بالأرقام، كمثل عدد الحضور في القداس يوم الأحد؟إذا أخذنا أحد الشعانين نموذجاً، فالحضور يملأ الكنيسة وما حولها. لكن بماذا ينشغل الحضور؟ أليس بالتصوير والأحاديث والأشواق والتهاني؟ هل يمكن اعتبار هذا الحشد دليل نجاح؟ هل يمكن اعتباره دليلاً على قوة الإيمان؟ ما لا يمكن إنكاره أن الحشد في أيام الأعياد يفرِح لأن الحاضرين هم نظرياً من الجماعة، لكن ماذا عن الأحد الذي يلي أياً من الأعياد؟ في الكنيسة، أغلب الإحصائيات لا تقدم إلا الإحباط، لأن الأرقام ليست مقياساً للنجاح.
نجد في الكتاب المقدس أن الرب لم يعطِ الأرقام الأهمية التي لها اليوم. ففي متى 20:18، يكتفي الرب بالقليل ليحضر: “حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ“. بالنسبة للرب، المطلوب هو وجود الجماعة لا حجمها. وفي لوقا 17:17-18 “أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟” هنا يريد الرب أن يثبت لنا أن الأرقام ليست دليلاً على النجاح ولا على قوة الإيمان.
إذاً، من أين أتى الاهتمام بالأعداد في الكنيسة؟ من عقلية مجتمع الاستهلاك الذي يريد أن يحصي كل شيء. في مجتمع الاستهلاك، للأرقام الكلمة الفصل، فهي تحدد الضرورات والمنافع والأرباح والمردود والأحجام. ومن أهم مبادئ هذه العقلية هي تحوّل الناس إلى زبائن يطلبون الخدمات التي تعرضها الكنيسة، والزبون دائماً على حق وعلينا إرضاؤه لكي يعود إلينا مرة أخرى لأن مقياس النجاح هو كثرة الزبائن. هذه العقلية، للأسف، تسرّبت إلى الكنيسة. بعض الكنائس صارت عندها تسعيرات في الأعراس والمآتم والعمادات، فللكاهن تعرفة وللمرتل تعرفة ولكل خدمة من الخدمات تعرفة. وينسحب الأمر على كل ما تبقّى. فتوقيت العرس، وما يجري في الكنيسة من زينة وتصوير وغيره، يحدده الزبون أي العريسان. وإن لم يجدا طلبهما عند هذا الكاهن أو هذه الكنيسة ينتقلان إلى كاهن آخر أو كنيسة أخرى. بهذا تحوّل الكاهن إلى “نفدة” في العرس مثل الفيديو والكوكتيل والزفّة. وفي الجناز صار الزبون، أي أهل الميت، يحدد عدد الكهنة. وفي العمادات أيضاً لا يجوز إغضاب الزبون، أي الأهل والعراب. حتّى أوقات القداديس والأعياد أُخضعَت للأرقام فصارَت تُنقَل بحجة إتاحة الحضور لعدد أكبر من المؤمنين.
وصية السيّد الأخيرة كانت “اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ” (متى 19:28). المهمّ في هذه الوصية ليس الكمية “جميع الأمم” بل التلمذة “تَلْمِذُوا“. فالرب رضي بأن يحضر في أي مكان يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه لكنه حدد الكون حدوداً للبشارة. قد نستطيع ملء الكنائس بالشعب، كأجساد وأرقام، لكن الأهم أن يكونوا تلاميذاً ليسوع. وجود الكثرة في الكنيسة مفرِح لأن الإخوة معاً. لكن الكثرة في المناسبات فقط تطرح السؤال حول فعالية التلمذة وحول جديّة الاستجابة للدعوة. الكلّ مدعوون، لكن المشكلة هي أولاً في الرسل الذين شكّوا في قدرة الرب على إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين، وثانياً في عقلية الحاضرين.
إن الحضور الفعلي في الكنيسة لا تحدده الأرقام بل وجود التلاميذ الثابتين الذين يسمعون تعليم الكنيسة ويعملون به ويلتجئون إليها كأبناء يعرفون أن طلبهم هو الخلاص الموجود في كنيستهم وهو دائماً معروض بالثمن نفسه الذي دفعه المسيح بغض النظر عن عدد الطالبين.
الأب أنطوان ملكي
www.orthodoxlegacy.org