الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس
لا يوجد في مجتمع اليوم المضطرب من لا يواجه ألماً في حياته ويتذوق كأس التجارب المر. إننا نرى الناس في كرب، وبؤس، وقهر، رازحين تحت ثقل الألم الرهيب، ووجوههم مكتئبة ولكن قلوبهم أكثر اكتئاباً. إنهم مقهورون ومتألمون. بسبب هذا الألم، أو بالأحرى، بسبب أنهم يتعاملون مع الألم بطريقة خاطئة، فإنهم يعانون من العديد من أمراض الجسد والنفس. بالتالي سوف نتناول بعض جوانب هذا الموضوع الكبير المختص بالمعاناة والألم في حياتنا.
1- الألم هو جزء من حياتنا
من المعروف جيداً أن الألم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة الإنسانية. لقد أعلن المسيح لتلاميذه أنهم سيتألمون كثيراً في حياتهم. “في العالم سيكون لكم ضيق” (يو33:16). إننا نجد هذه الحقيقة على مدار الكتاب المقدس وتعليم الآباء القديسين الذين هم خلفاء الرسل القديسين. لقد زار بولس الرسول وبرنابا الرسول لسترة، وأيقونية، وأنطاكية معاً ” يشدِّدان أنفس التلاميذ ويعظانهم أن يثبتوا في الإيمان، وأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله“(أع22:14). وشهد بولس الرسول لمسيحيي كورنثوس“مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين“(2كو8:4). التعليق المناسب على عبارة “ولكن غير متضايقين” سوف نتناوله فيما بعد في هذا الباب. إننا هنا نؤكد على حقيقة أن الحياة المسيحية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعاناة والألم.
لقد مر القديسون بالعديد من الآلام، والتجارب، والصعاب. يقول القديس نيكيتا ستيثاتوس تلميذ القديس سمعان اللاهوتي الحديث: “الحياة الحاضرة مملوءة بالمعاناة والألم بالنسبة للقديسين. إنهم يتألمون من الآخرين، ومن الشياطين“. إننا نجد نفس الشهادة في قول القديس اسحق السرياني: “لأنه من المستحيل عندما نكون عابرين طريق البر ألا نواجه الحزن، وألا يعاني الجسد من المرض والألم، وأن يبقى بغير مساس لو كنا نريد حقاً أن نعيش في الفضيلة“.
يصر الرسل والقديسون على هذه الحقيقة، لأن العديد من المسيحيين، مثل العديد من معاصرينا، يظنون خطأً أنه طالما نعيش حياة مسيحية فسنكون فرحين طوال الوقت. من المؤكد، كما سوف نرى فيما بعد، أن لدينا فرح وتعزية، لكن هذه التعزية، وهذا الفرح والارتياح يأتي من خلال اختبار الصليب. “أتى الفرح إلى العالم كله من خلال الصليب“. تأتي التجارب أولاً، ثم بعد ذلك الفرح، ونبتهج داخلياً على الرغم من التجارب الخارجية.
2- أسباب الألم
يجب علينا أن نوضح أن الألم له أسباب عديدة. إذ يتكلم الآباء القديسون من خبرة يعلِّمون أن الأسباب الرئيسية الثلاثة للألم هي الشيطان، والناس، والطبيعة الإنسانية الساقطة، بكل الأهواء الموجودة في قلوبنا. يكون الألم الآتي من الشيطان مؤلماً جداً، ويختبره أولئك الفاعلين الخير والذين يحاولون حفظ وصايا المسيح. يصف القديس دوروثيئوس حالة من هذا النوع من الألم غير المحتمل قائلاً:
“في إحدى المرات بينما كنت لا أزال عائشاً في الدير، تألمت بحزن شديد غير محتمل، وكنت في حالة من الحزن والكرب لدرجة أنني كنت على وشك الموت. كان هذا الألم بسبب هجمة من الشياطين، وهذا النوع من التجربة أتى بسبب حسدهم. إن هذا الألم شديد جداً، ولكنه قصير، وثقيل، ومظلم، وعديم التعزية والراحة. وما لم تأتِ نعمة الله إلى النفس بسلاسة لن يحتمل أحد هذا الألم“.
يأتي أيضاً الألم من افتراء الآخرين وقذفهم لنا. عادة ما يستفزنا ذلك لكي نشكو من أن أولئك الذين، على الرغم من أننا عاملناهم بطريقة جيدة، يتصرفون بهذه الطريقة. أحياناً ما يضطهد الناس خدام الله، كما حدث في حالة الأنبياء والرسل القديسين، وبالتالي تسببوا في مشاكل وآلام. يكتب بولس الرسول إلى أهل كورنثوس: “ فإننا لا نريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة ضيقتنا التي أصابتنا في أسيّا، أننا تثقلنا جداً فوق الطاقة، حتى أيِسنا من الحياة أيضاً ” (2كو8:1).
ثم يوجد أيضاً الألم الناتج عن طبيعتنا الساقطة والأهواء الموجودة في قلبنا كما ذكرنا من قبل. يكتب الأنبا دوروثيئوس قائلاً أنه من الممكن أن نكون في حالة جيدة وأن نكون في سلام داخلي وهدوء، ثم يقول لنا أخونا شيئاً ما فنثور وننقلب عليه ونتهمه بأنه تسبب في مضايقتنا. “هذا الأمر سخيف وغير منطقي بالمرة. هل الشخص الذي تكلم زرع الهوى داخله؟ العكس صحيح: فقد أظهر المتكلم الهوى الموجود داخل المستمع، بحيث يستطيع الأخير التوبة لو أراد“.
هكذا تكون هذه هي الأسباب الثلاثة الرئيسية للألم التي تواجهنا في الحياة: الشيطان، والآخرين، وطبيعتنا الساقطة. النوعان الأولان يختبرهما القديسون، على حين أن النوع الثالث عادة ما يصيب أولئك الذين لم يتطهروا من الأهواء بعد. لا يؤثر الألم الناتج عن السببين الأولين على الحالة الداخلية للنفس، وبالتالي يتلقى المتألم نعمة كبيرة بقليل من الصبر. إلا أن السبب الثالث، على كل حال، يستطيع أن يتسبب في حالة رهيبة ما لم نكن حريصين. بالتالي، يوجد نوعان من الألم: خارجي وداخلي.
من الواضح أن الآباء الروحيين الذين مُنحوا موهبة التمييز يستطيعون تحديد أي نوع من الألم ناتج عن الشيطان، وأيهما ناتج عن الآخرين، وأيهما ينتج عن ذواتنا، وأي منها يكون بحسب مشيئة الله أو بسماح منه. هذا هو السبب الذي يجعل الآباء القديسين قادرين على شفائنا بصورة أكثر كفاءة من الأطباء النفسيين الذين لا يستطيعون التمييز بين هذه الأنواع والذين يرون كل شيء على أنه بسبب حالة الشخص النفسية الضعيفة.
3- فوائد الألم
إن الألم والمعاناة ضروريان جداً لأنهما شركة في آلام المسيح. لقد قيل الكثير في التعليم الأرثوذكسي عن التشبه بالمسيح. إلا أن هذا التشبه لا يكون من الخارج، ولا هو أخلاقي، ولكنه سري. ينبغي علينا أن نمر بما مر به المسيح، بما في ذلك التجارب والآلام التي عانى منها. يكتب بولس الرسول قائلاً: “الذي الآن أفرح في آلامي لأجلكم، وأكمِّل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده، الذي هو الكنيسة “(كو24:1). بحسب تعليق القديس ثيئوفيلاكتس رئيس أساقفة بلغاريا: “هذه العبارة تعني أنه ربما لو أن المسيح كان محتاجاً للألم ، إلا أنه مات قبل أن يدفع كل دين آلامه، بالتالي أنا بولس أدفع دين المسيح هذا وأخضع لهذه الآلام التي كان يتعين على المسيح الخضوع لها من أجلك ومن أجل كل الكنيسة المسيحية“. علم اللاهوت هذا الخاص بشركتنا في آلام وموت المسيح يوضحه بولس الرسول ثانية في إحدى رسائله قائلاً: “حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تُظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا. لأننا نحن الأحياء نُسلَّم دائماً للموت من أجل يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائتِ. إذاً الموت يعمل فينا، ولكن الحياة فيكم ” (2كو4: 10-12).
تجلب الآلام والتجارب في حياتنا العديد من الفوائد. الألم هو إعلان جديد عن المسيح للإنسان. من خلال الألم يولد كيان جديد.يهيئ الألم الظروف الحقيقية لانفتاحنا على عالم آخر كان مخفياً فيما قبل.
يتكلم القديس مكسيموس المعترف كثيراً في كتاباته عن الوجود المفيد للألم والمعاناة، أو كما يصفهما، “الآلام غير الإرادية“.بالنسبة للقديس مكسيموس تكون هذه “الآلام غير الإرادية” وسائل قوية للتطهير من “الأهواء الإرادية“. هذا الألم الذي “للآلام غير الإرادية” الناتجة عن التجارب والصعاب يهزم قوة الأهواء. “يجلب كل ألم، سواء كان إرادي أو غير إرادي، الموت للذة الحسية التي هي أم الموت“، بشرط أن يقبله المتألم بفرح. بخلاف احتمال الآلام غير الإرادية بصبر، نستطيع أن نحارب الأهواء الإرادية أيضاً عن طريق الألم الإلهي.
يكتب نفس القديس قائلاً: “تُرسَل التجارب للبعض لكي يتخلصوا من الخطايا السابقة، ولآخرين لكي يجتث الخطايا المرتكبة في الحاضر، وللبعض الآخر لكي يقتلع مقدماً الخطايا التي قد تُرتكب في المستقبل. تختلف هذه عن التجارب الحاصلة لكي تختبر الناس بنفس الطريقة التي اختُبر بها أيوب“.
يشترك القديس غريغوريوس بالاماس في نفس هذا المنظور عندما يقول “تساعد البلايا المؤمن على التخلص من الخطايا، وعلى أن يكون متدرباً ومختبراً، وعلى أن يفهم بؤس هذه الحياة، وعلى أن يرغب بحرارة ويطلب باجتهاد التبني الأبدي كأبناء، والفداء، والحياة الجديدة بحق، والبركة“.
يقول داود الملك والنبي في أحد مزاميره: “في الضَيق رحَّبت لي ” (مز1:4). يقول القديس نيقوديموس الآثوسي: “كلما كان الشخص أكثر ألماً ومعاناة في العالم الحاضر كلما تسامى عقله فوق الحدود الضيقة لهذا العالم. إنه يتجاوز ارتفاع السموات، ويصل في النهاية إلى مكان فسيح متسع بلا قياس، وبمجرد أن يصل إلى هناك فإنه يبتهج ويجد الراحة في معاينة الله العذبة.حتى قبل انحلال جسده، يعيش حياة مباركة وسعيدة. لقد أشار الرب لذلك عندما قال: “في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم” (يو33:16). ورتل حبقوق في نشيده معلناً عن الراحة التي تنتج عن الألم قائلاً: “ لأستريح في يوم الضيق ” (حب16:3)”.
من خلال الألم نتذكر الله ونلجأ إليه، وبالتالي تتولد عطية الصلاة الثمينة بشرط أن نواجه الألم بالجدية اللازمة وفي الإطار الموصوف من قِبَل التقليد الأرثوذكسي.
كان القديسون واعين للفوائد الناجمة عن الألم. ولذلك، كما يقول القديس يوحنا السلمي، كانوا يعطشون للتجارب. يقول نفس القديس أن السمات المميزة لأولئك الذين وصلوا للكمال في الحزن المقدس هو “العطش للإهانة، والاشتياق الإرادي للتجارب اللاإرادية…. طوبى للجياع إلى الألم والعطاش إلى الإهانة لأنهم سيشبعون من الطعام الذي لن يفنى“. لقد اشتهوا الألم لأنه كلما ازداد الألم كلما زادت التعزية. يكتب بولس الرسول قائلاً: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل تعزية، الذي يعزينا في كل ضيقتِنا، حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها من الله.لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً” (2كو1: 3-5).
4- التعامل مع الألم
لقد قلنا فيما سبق أن الأمر الأكثر أهمية ليس وجود الألم من عدمه ولكن إن كنا نتعامل معه بطريقة جيدة أم بطريقة رديئة.
لو كُنا أصحاء روحياً، فإننا سوف نفعل ما فعله بولس الرسول نفسه وأوصى المسيحيين أن يفعلوه: “وليس ذلك فقط، بل نفتخر أيضاً في الضيقات، عالمين أن الضيق يُنشئ صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء، والرجاء لا يُخزي، لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ” (رو5: 3-5). ينبغي علينا أن نفرح في الرب لأننا حُسِبنا أهلاً لأن نحتمل كل نوع من الألم والشقاء، سواء أتى من الشياطين لأننا نجاهد من أجل الفضيلة، أو أتى من الناس الأشرار لأننا نريد أن نمشي في طريق وصايا الله.
ينبغي علينا أيضاً أن نأخذ في الاعتبار أننا نستحق ليس فقط الألم الذي يصيبنا، بل ألاماً أكثر وأعظم. هذا جزء من التوبة: “علامة التوبة الحقيقية هي أن نعترف أننا نستحق كل التجارب، الخفية والظاهرة، التي تأتي علينا، بل وأعظم منها” (القديس يوحنا السلمي).تشفي التوبة الألم الناتج عن الضغوط الخارجية والألم.
أما من جهة الألم الناتج عن آخرين، ينبغي علينا ألا ننقلب على أولئك المتسببين فيه، لكن أن نحتمل الألم بصبر عالمين أن خيراً كثيراً سينتج عن ذلك.
إننا مع الأسف نتصرف مثل الكلب الذي يصفه الأنبا دوروثيوس قائلاً: “لقد قذفه شخص ما بحجارة فترك الشخص الذي قذفه وذهب ليعض الحجارة. إننا نفعل نفس الشيء، فنحن نترك الله الذي سمح لهذه المصائب أن تقع لكي يطهرنا من خطايانا، وننقلب على قريبنا قائلين: “لماذا قال لي ذلك؟ لماذا فعل بي ذلك؟“. وعلى الرغم من أننا نستطيع الاستفادة من مثل هذه المشاكل، إلا أننا نعمل ضد مصلحتنا متجاهلين حقيقة أن كل شيء يحدث بتدبير الله لأجل خير كل واحد منا“.
ترتبط إدانة النفس بالتوبة أيضاً. ينبغي على كل واحد منا أن يلوم نفسه، ويؤنب نفسه، ويرى نفسه مستحقاً للألم وأنه المتسبب الوحيد فيه. إننا نتألم داخلياً ونلحق الألم بالآخرين لأننا لا نلوم أنفسنا. أما بالنسبة لرجل الله، فمهما أصابه “سواء أذى، أو إهانة، أو أي نوع من الألم، فإنه يرى نفسه على الفور مستحقاً له ولا يضطرب بالمرة. هل توجد حرية من القلق أعظم من ذلك؟” (أنبا دوروثيوس).
يختلف الألم عن الحزن. فالألم الخارجي يختلف عن الاكتئاب الداخلي. الحزن والاكتئاب، اللذان عادة ما يبتلعاننا، يكونان بديلين للحزن المقدس، الذي هو التوبة. إننا نعاني في هذه الأيام كثيراً ليس لأن لدينا تجارب كبيرة أو صغيرة، ولكن لأن التوبة تنقصنا. إننا مهووسون بالشعور بالاكتفاء الذاتي. هذا هو مصدر العديد من الأمراض النفسية بل وحتى الأمراض العضوية.
ينبغي علينا أن نتذكر باستمرار كلمات الرسول: “مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيرين، لكن غير يائسين.مضطهدين، لكن غير متروكين. مطروحين، لكن غير هالكين ” (2كو4: 8-9).