تسنّى لنا، بنعمة الله، أن نزور صربيا، على غير استعداد، خلال تشرين الأوّل، من هذا العام، ٢٠١٥. كانت في البال من اطّلاعنا على بعض كبارها: القدّيس سابا وأبيه القدّيس سمعان المفيض الطّيب، القرن الثّالث عشر؛ ثمّ القدّيس نيقولاي فيليميروفيتش (+١٩٥٦)، والقدّيس يوستينوس بوبوفيتش (+١٩٧٩). والأدنى إلينا من الكبار الصِّرب، البطريرك الرّاحل بولس (+٢٠٠٩).
التّاريخ حافل ومضطرب. الكنيسة تراث وغنى، يعود، اليوم، بتؤدة، كما من البعيد. شعب صلب كادح فقير ودود. أرض خصبة غنّاء. تأتي صربيا المعاصرة من آلام. تفكيك يوغوسلافيا بعد انهيار الشّيوعيّة. علاقة مريبة بالاتّحاد الأوروبيّ: تقييد، خنق… لا خرجت، إلى الآن، من الإطار الاجتماعيّ الشّيوعيّ، ولا دخلت، تمامًا، في الإطار الغربيّ!. الحديث عمّا فعلته حقبة السّلطنة العثمانيّة وما سبقها حكاية أخرى تحكى بالدّم!.
كنّا نظنّ البلد على تُقى. موسميّون. يكتفي الأكثرون بالميلاد والفصح. رغم ذلك، تعني لهم الكنيسة لأنّها في جذورهم. يحترمون. لكن وجدانهم غريب عن الممارسة المسيحيّة. لم يُنشأوا عليها. عملت الشّيوعيّة على طمس ما لمسيح الرّبّ، ورسّخت الدّهريّة غربتهم. أكثرهم، فيما يبدو، غير معمَّد. بحاجة إلى إعادة تبشير. العمل الرّعائيّ ضعيف. وجهٌ أحدثَ تأثيرًا طيِّبًا، في السّنوات الأخيرة، هو وجه البطريرك الرّاحل بولس. مشى في جنازته أكثر من نصف مليون إنسان. في كنيسة صغيرة، في المستشفى العسكريّ، رسمٌ حائطيّ له، كقدّيس، رغم أنّ قداسته لم تُعلن بعد. هذا، فيما بدا، هو الرّسم الوحيد له كأيقونة في كلّ صربيا. في يده مخطوط فيه لفظتان طالما اعتاد تردادهما: “كونوا إنسانيِّين”!. ميزته كانت المحبّة والفقر والبساطة والجرأة في قول كلمة الحقّ!. راهب، رجل صلاة وصوم!. لله كلّه!. يختلط بالنّاس، بالعاديِّين، في الشّارع، في الباصات. تبطرك في الثّمانين. رقد في السّادسة والتّسعين. عرض استقالته مرّات. رفضها المجمع. وجوده كان مؤشّر بَرَكة. مدفون في دير للرّاهبات اسمه راكوفيتسا. إقبال المؤمنين عليه، هناك، ليس قليلاً!. كنيسة الدّير رائعة. إيقونات حائطيّة تراثيّة بهيّة!. قريبة من البيزنظيّة، لكن لها مسحتها الخاصّة!. رقّة على صلابة، حنان بلا عاطفيّة، جُرح بلا دم، سكون يقول الكلمة المتجسّد!.
أوّل محطة، مهد الكنيسة الصّربيّة: دير ستودانيتسا!. هناك يرقد القدّيس سمعان المفيض الطّيب، والد القدّيس سابا الصّربيّ، وزوجته القدّيسة أنستاسيا، وابنهما الملك سمعان، الّذي ورث العرش عن أبيه. أين رفات القدّيس سابا؟ لأنّه كان رمز الشّعب الصّربيّ، أخذها سنان باشا العثمانيّ وأحرقها في مكان ما من بلغراد (١٥٩٥). في المكان شُيِّدت كنيسة من أكبر الكنائس في العالم. لا زال العمل جاريًا فيها إلى اليوم. ستودانيتسا إرث بارز. الكنيسة الرّئيسيّة، لوالدة الإله، يجري ترميمها. من القرن الثّالث عشر. بقربها كنيسة من السّابع عشر للقدّيسَين يواكيم وحنّة. المكان أدنى إلى الإرث الغابر. فيه اثنا عشر راهبًا. لا إشعاع روحيّ بارزًا، في الوقت الحاضر. على أنّ ألطاف “حرّاس الهيكل”، والصِّرب، حيثما حللنا، أخّاذة!. هناك يتداخل تاريخ عائلة “نامنيا” الحاكمة بتاريخ الكنيسة الصّربيّة.
من دير ستودانيتسا، انتقلنا إلى دير جيتشا. من القرن الثّالث عشر. بناه القدّيس سابا وأوّل ملك متوَّج على صربيا، استفانوس الأوّل. هو المكان الوحيد الّذي وجدنا فيه زخمًا رهبانيًّا روحيًّا. دير للرّاهبات، حاليًا، بأربعين راهبة. يعرفن الكنيسة الأنطاكيّة من ملاك حلب، بولس المغيَّب. استُقبلنا بمحبّة فيّاضة. عندهنّ رئيسة ممتازة، مايكا إيلينا. كأنّنا وإيّاهنّ على مودّات منذ سنين. جمعتنا إلى راهباتها. أردن أن يسمعن. عادت إلى أذهاننا كلمة قالها أسقف برافوسلافنا، يوحنّا، الّذي التقيناه في الطّريق إلى ستودانيتسا: خطيئة جسيمة ألا يتراصّ الرّوم الأرثوذكس في العالم، للتّعزية والشّهادة!.
ثمّ كانت زيارتنا لدير تْشليا حيث تربض رفات القدّيس يوستينوس بوبوفيتش. هناك أقام القدّيس وخدم في الأيّام العجاف للشّيوعيّة. دير للرّاهبات، وسط طبيعة فردوسيّة ولا أبدع. هذا شعب، على ألمه الكبير، يحبّ الفرح. حيثما حللت طالعتك تشكيلات الأزاهير، على كثافة وغنى في اللّون والنّوع يخلبان الألباب. في المكان، كنيسة رئيسيّة، يجري تشييدها من مردود مؤلّفات القدّيس يوستينوس، وفق وصيّته. رفاته، حاليًا، في كنيسة صغيرة، خارجها مدفنُه. سجدنا واستبركنا.
على مقربة من دير تْشليا، دير ليلتش، الّذي أوقفه للكنيسة القدّيس نيقولاي فيليميروفيتش ووالده دراغومير. هناك أُودعت رفاته. مكان بهيّ. فيه متحف كتب نادرة ومخطوطات، وكنيسة جميلة.
هذان القدّيسان، يوستينوس بوبوفيتش ونيقولاي فيليميروفيتش، طبعا صربيا الحديثة بطابع روحيّ تراثيّ جميل. معلِّما الكنيسة الصّربيّة المعاصرة بامتياز. الأخير رقد في الولايات المتّحدة، بعد اضطهاد شرس، والأوّل في بلاده، عمليًّا، معترفًا!. أبوان لامعان بامتياز للكنيسة الأرثوذكسيّة قاطبة!.
أيضًا، زرنا المستشفى العسكريّ. هناك، فيه، كنيسة صغيرة جميلة، أُهديت لها إيقونة من الكنيسة الرّوسيّة للقدّيس الجديد لوقا الطّبيب سيمفروبول الرّوسيّ، المتوفّى العام ١٩٦١. صاحب سيرة من سِيَر الجبابرة!. فيه تتمثّل صورة الكنيسة الرّوسيّة الصّلبة بإيمانها. مَن يقرأ حياته، بعين الرّوح، يفهم كيف قويت الكنيسة على الشّيوعيّة وقهرتها!. سجدنا لرفاته. على اسمه صارت الكنيسة. في هذا المستشفى، أقام البطريرك الرّاحل بولس الصّربيّ آخر خمس سنوات من حياته، ورقد. في المكان كهنة يخدمون العسكر، يتناوبون. الأب ألكسندر، الّذي التقيناه، وجه طيّب دمث. كثيرون يحبّون الأرثوذكس من بلدان أخرى، متى التقوهم. الأب ألكسندر مثال من هؤلاء. في مستوى السّلطات الكنسيّة، الواقع صراع محتدم. الرّوس واليونان، الرّوس والأوكران، وعندنا، أنطاكية وأورشليم… الصّغار أكثر استعدادًا للّقاء والتّحاب. يشعرون، في قرارة نفوسهم، بأنّهم مستهدَفون، ولو لم يكن، في وسعهم، إثبات ذلك!. في أعماقهم، على يقين أنّ الأمر كذلك!. الأرثوذكسيّة هي الكنز المخفى، ولكن لا عن عيون الخبيث المفتري!. ولهذا عملاء في كلّ مكان. في الدّاخل والخارج. ما الّذي يَجمع الهرطقة والدّهريّة والشِّيَع والبِدَع وغير المسيحيّة والإلحاد واللّاإدريّة والسّياسة والاجتماع والاقتصاد والتّلفيق… على الأرثوذكسيّة؟ في الظّاهر، لا منطق يبرّر مثل هذا القول والحسّ العميق!. رغم ذلك، الأمر كذلك!. هذه بديهيّة روحيّة!. الصّراع، في الوجود، هو صراع أبناء التّنّين ضدّ نسل المرأة، والدة الإله، الكنيسة!. والأرثوذكسيّة ولا أثمن لأنّها حافظة الكنيسة، وجدانًا رسوليًّا وإرثًا تاريخيًّا!. لبّ الصّراع هو على محو اسم المسيح، من جهة الوحش، وعلى نصرة صليب الحبّ، إلى المنتهى، من جهة ابن مريم، إلى أن يأتي في المجد!. كلام يقال ويُنتسى لأنّه ليس برسم إقناع أحد!.
في اليوم عينه، زرنا دير راكوفيتسا، حيث تستقرّ عظام بولس البطريرك. حركة ناس، يجيئون ويذهبون، غير عاديّة!. ملكة النّحل تصنع القفير وتزيده!. هذا رجل بسيط، زكّاويّ القامة، لا لحم له، فقط عينان وروح وفم ونار غيرة على كنيسة المسيح متّقدة!. يأتي من تراث ينعطف على الملكوت المحقَّق الآتي!. ضيِّق في فقره حتّى الامّحاء، واسع في حضانته همَّ خلاصِ شعبه وِسْعَ العالم برمّته!. الزّهر البرتقاليّ والأصفر على تراب ضريحه يحدِّث عن النّور المنبعث من عظامه، المتغلغل في ثنايا عتماتٍ تكثّفت، جراحًا، في نفوس كثيرة!. الأرثوذكسيّة لا تموت لأنّ المسيح قام!. في نهاية المطاف، محبّتك، سيّدي، تغلب!. إغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!. إن أنسى لا أنسى قولة القدّيس بائيسيوس الآثوسيّ: متى اشتدّت حلكة العتمة لا بدّ ليسوع أن يتدخّل ليملأ الأرض نورًا. هذا حتّى يتسنّى للكلّ أن يعرفوه. وهذا قبل أن يأتي في مجده!. العالم، لديه، في دائرة الإشفاق!.
أمّا بعد، فغادرنا، بعد رحلة عطرة موجعة، وملؤنا اليقين أنّ هذا الشّعب الصّربيّ طبعته الأرثوذكسيّة بطابعها، ولو نُشِّئ ليحسب أنّ روحها بادت، وما بقي إلاّ الأطلال. الأرثوذكسيّة روح ووجدان، ولا شيء ممّا يضيع في مهبّ الرّيح. النّفوس، اليوم، بخلاف ما نظنّ، مهيّأة، تمامًا، لاتّقاد الرّوح. يخنقون الشّعوب بالفقر، ويغرقونه في الهوان، ويلقونه في العبوديّة لرؤساء الأمم وعظمائها، ولا يَعلمون أنّهم يؤتون النّاس نسكًا وغربة تستدعي ذاك الّذي ليس له مكان يسند إليه رأسه، فيصرخون، من حيث يعون ولا يعون: “أعطني هذا الغريب”!.
غادرنا، وفي القلب غصّة وفرح في آن. رحلة إلى وجه السّيّد، لا منطبعًا على حجارة وآثار بل في قلوب تحكي لطفًا وصلابة وفرحًا، إلى فقر وألم!. صربيا إيقونة صليب!.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 25 تشرين الأول 2015