...

الثائر الذي أخمدته المحبّة

لو عرضنا النبيّ يونان اليوم على طبيب نفسيّ لربّما شخّصه بواحدة من الإصابات المرضيّة التالية: اضطراب القلق (Anxiety disorder) أو متلازمة إنكار الواقع (Reality denial syndrome) أو جنون الشكّ والاضطهاد (من الله) (Paranoia) أو متلازمة اليأس وصولًا إلى طلب الموت (Despair syndrome) «موتي خيرٌ من حياتي» (يوحنّا ٤: ٨) كلّ هذه الاضطرابات النفسيّة والجسديّة مردّها إلى عدم قدرة يونان على طاعة الله بذهابه إلى نينوى وحثّ أهلها على التوبة؛ فهم غارقون في فساد خطيئتهم المتغلغل في صميم حياتهم. وإذ بنا اليوم نرى لبنان كنينوى واللبنانيّ كيونان النبيّ. إذ لا يخلو بيتٌ من فردٍ غلبته حالته النفسيّة في مواجهة الصعاب فأسقمته. إذًا ما السبيل إلى الخروج من هذا المأزق؟

رمى ركّاب السفينة يونان في البحر إذ رأوا بينهم عاصيًا لأمر الله. وشعر هو في بطن الحوت أنّه غارق في أسفل جبال الأرض، في محيط الضياع، عقابًا لهربه من تحمّل المسؤوليّة المناطة به، ما زاد من يأسه. إلاّ أنّ الحقيقة مختلفة. فالله كان حافظًا ليونان ومعتنيًا به أشدّ اعتناء، لأنّ الحوت حفِظه من عدم رحمة البحر. وهنا كان يونان «مبتكرًا، خلاّقًا» في الحلّ حين فرغت من يده سبُل النجاة وفَهِم أنّه يجب أن يدخل إلى أعماق نفسه بدلًا من ندب حالته.

إذّاك رفع النبيّ صلاته وكانت على الشكل التالي: الإحساس الداخليّ بأن الله يستجيب- الاعتراف بخطيئة الهروب- الاطمئنان والثقة بالله- الفهم أنّ التشتّت بالأضاليل العالميّة يُبعد النعمة- وأخيرًا التسليم بالله وبخلاصه. «فأمر الربّ الحوت فقذف يونان إلى البرّ» (يوحنّا ٢: ١٠).

«التوبة» كلمة يفيد أصلها اليونانيّ معنى التحوّل الجذريّ في طريقة تفكير الشخص. القدّيس باسيليوس الكبير يقول: «التوبة هي تبديل عشق بعشقٍ آخر» وتاليًا من يتبدّل معشوقه تتبدّل همومه. هذا بدأ في ذات يونان إلاّ أنّ مفاعيل هذه التوبة الشخصيّة بدت في جماعة أهل نينوى. وكأنّهم تابوا إلى الله جماعيًّا. قد نتعاون في الضيقات مادّيًّا إلاّ أنّ جهاد جماعة الكنيسة هو تعاضد روحيّ بالدرجة الأولى. فالصوم والصلاة الجماعيّان يدرّان اللّبن والعسل الإلهيّين. وصل الأمر بأهل نينوى إلى أن أشركوا البهائم في صومهم، فإمّا أن تتمجّد الخليقة بأسرها بالربّ وإمّا أن تسقط. «وقيل في نينوى عن أمر الملك وعظمائه قائلًا لا تذُقْ الناسُ والبهائمُ شيئًا… وليتغطّ الناس بمسوحٍ ويصرخوا إلى الله بشدّة ويرجعوا كلّ واحدٍ عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي بين أيديهم» (يونان 3: 7-8)، تاليًا لم يمتنعوا فقط عن الأكل بل صلّوا بشدّة وقوّموا سُلوكيّاتهم التي لا تتلاءم مع تعاليم الربّ.

هذا يعلّمنا أن نتعاضد روحيًّا والأمر هنا أصعب من التعاضد المادّيّ لأنّ فيه قبولًا للخطأة بين من يظنّون أنّهم يؤدّون الله حقّه راضخين لرضى داخليّ. إن هيّأنا مكانًا بيننا لمن يرذلهم المجتمع وأحطناهم بالاحتضان فهذا يشفيهم وإيّانا، يشفي جرح الحياة الذي يترك ندوبًا في نفوسهم. من شأن ذلك أنّ يُعلّم الإنسان أيضًا أنّه عليه الاجتهاد بعرق جبينه فكما أنّ المساعدة المادّيّة تزيد الكسول لامبالاةً ولا تؤته

بثمر مستدام، كذلك طلب الله عند الحاجة فقط من دون الشكر والتمجيد المستمرّين، يبني علاقة ريعيّة مع الله غير منتجة.

إذًا عندما نتعلّم محبّة بعضنا بعضًا من دون شروط ونشترك معًا في جهاد التوبة الجماعيّة مكرّسين وحدةً حقيقيّة في الكأس المقدّسة عندها نحرّك قلب الله. وتبقى كلّ العقبات الأرضيّة مسألة وقت تصقلنا روحيًّا ولا تقتلنا نفسيًّا. لم يفهم النبيّ يونان قصد الله له وبواسطته أهل نينوى وكلّ العالم. بل ثار غير مرّة ولم يرضَ بتدبير الله فدخل في حالة نفسيّة أرهقت روحه. إلاّ أنّ دخوله إلى أعماق نفسه بتواضعٍ جعله يستكين لمحبّة الله وحنانه ويدرك عمق تدبيره لكلّ نسمةٍ من خليقته.

ربّ قائلٍ ما بال الكنيسة تكّرر الحلول ذاتها لمختلف الأزمات. ذلك بأنّ الكنيسة لها الخبرة في النَفس البشريّة واختلاجاتها وعِلَلها وتقويمها. من يتلهّى بالظروف المحيطة به من دون يسوع يصل إلى اليأس وهذا مآل الشيطان. بينما من يغوص إلى أعماقه ليهيّئ مكانًا للروح القدس فذاك «تجري من بطنه أنهار ماء حيّ» (يوحنّا ٧: ٣٨) «قد كلّمتكم بهذا ليكون لكم فيّ سلامٌ… ثقوا: أنا قد غلبت العالم» (يوحنّا ١٦: ٣٣)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثائر الذي أخمدته المحبّة