...

طوبيّا – الرجاء في الشدائد

يقدّم لنا سفر طوبيّا (الذي يُعتبر من الأسفار القانونية الثانية في العهد القديم) صورة مشرقة عن الرجاء والثقة بالله في زمن التجربة. يخبرنا السفر عن رجل اسمه طوبيّا (كلمة عبريّة معناها «الله طيّب»)، ينتمي إلى سبط نفتالي من الأسباط العشرة التي كانت تشكّل مملكة الشمال، التي هي مملكة إسرائيل، والتي سباها شلمنصّر ملك آشور السنة ٧٢٥ ق.م. في أيّام ملكها هوشع. وسكن طوبيّا بعد السبي في مدينة نينوى مع حنّة امرأته وابنه الذي كان يحمل اسم أبيه «طوبيّا»، والمرجّح أنّه كاتب السفر.

طوبيّا منذ فتوّته، كان أمينًا لشريعة الله، متمسّكًا بإيمانه، لم يسلك في عبادة الآلهة الوثنيّة التي أدخلها ملوك إسرائيل. كان يذهب إلى أورشليم إلى هيكل الربّ وهناك كان يسجد للربّ إله إسرائيل ويوفي جميع بواكيره وأعشاره (طوبيّا ١: ٦). هذه كانت المحنة الأولى والأخطر، من سلسلة محن مرّ بها طوبيّا، والتي يمرّ بها كلّ إنسان مؤمن، الذي رغم الأوضاع والظروف المحيطة، والدافعة إلى الخطيئة، يبقى أمينًا لوصايا الله، ويعرف أنّه رغم كلّ المغريات، يبقى الله كنزه الوحيد. حتّى ولو سقطت الجماعة كلّها في الشرك بين الله وآلهة غريبة يبقى هو على محبّته الأولى لإلهه.

المحنة الثانية لطوبيّا هي السبي والعيش في أرض غريبة، حيث سيكون امتحان إيمانه. الله أعطى لطوبيّا نعمة أن يكون لديه امتيازات عند شلمنصّر الملك، الذي أعطاه الحرّيّة في أن يذهب حيث يشاء في أنحاء المملكة. واستخدم طوبيّا هذه الحظوة على صعيدين روحيّ ومادّيّ. روحيًّا أصبح طوبيّا مبشّرًا لإخوته اليهود، الذين تحت وطأة السبي والجوع أكلوا من طعام الأمم، يحثّهم على التمسّك بشرائع آبائهم، ويثبّتهم في الإيمان، وينصحهم بعدم الاختلاط بعادات الأمم وخطاياهم. «فكان يطوف على كلّ من كان في الجلاء ويرشدهم بنصائح الخلاص (طوبيّا ١ :١٥). اعتبر نفسه مسؤولًا عن توبتهم وعن غيّهم. وهذه أعظم مسؤوليّة للإنسان أن يرّد نفوس الخطأة إلى التوبة. «فليعلم أنّ من ردّ خاطئا عن ضلال طريقه، يخلّص نفسًا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا» (يعقوب ٥: ٢٠).

على الصعيد المادّيّ. بعد موت شلمنصّر أصبح سنحاريب ملكًا وفشل في سبي المملكة الجنوبيّة، مملكة يهوذا، فانتقم من اليهود المَسْبيين واضطهدهم وقتلهم وشرّدهم. وهنا انطلق طوبيّا في ترجمة إيمانه عبر ممارسة أعمال الرحمة. وما كانت محبَّته بالكلام أو باللسان وحسب، بل بالعمل والحقّ (١يوحنّا ٣: ١٨). فكان يترجم محبَّته لإخوته بمساعدة كلّ واحد من أمواله قدر وسعه، فيطعم الجياع ويكسو العراة. قلب طوبيّا كان ملتهبًا بمحبّة الله والآخرين. وهذا كان دافعًا لأن يعرِّض حياته للخطر عندما كان يقوم بدفن الموتى، كيلا تبقى جثثهم ملقاة على الطرقات، لكون عمليّة دفن الموتى كانت تُعتبر جريمة كبيرة. وكان طوبيّا يطوف كلّ يوم على جميع عشيرته ويعزّيهم ويؤاسي كلّ واحد من أمواله على قدر وسعه. فيطعم الجياع ويكسو العراة ويدفن الموتى والقتلى بغيرة شديدة» (طوبيّا ١: ١٩-٢٠). ومخاطرة طوبيّا بدفنه الموتى كانت سببًا لملاحقة الملك له، وخسارة أمواله.

المحنة الثالثة، كانت عندما أُصيب طوبيّا بالعمى بعد عودته من دفن أحد الموتى، «فوقع ذرق من عشّ خطّاف في عينيه وهو سخن فعمي» (طوبيّا ٢ :١١). وهذا ما سبّب له سخرية أقاربه، الذين عيّروه بغيرته ومحبّته، وماذا جنى منهما؟. «أين رجاؤك الذي لأجله كنت تبذل الصدقات وتدفن الموتى»

(طوبيّا ٢: ١٦). والمؤلم أكثر لوم امرأته له، وقولها له ماذا نفعته أمانته، وصدقاته، ومخاطرته بحياته؟ كلّ هذه سبّبت ما وصل إليه. وبماذا كافأه الله؟ وهنا أصبح طوبيّا نظير أيّوب، من جهة تعييرات أقاربه وزوجته، لكنّه ظهر مثالًا في الصبر، والرجاء، والثبات في الإيمان والحزم، والثقة بالله وبمعونته فهو الوحيد القادر على أن ينجيّه من التجربة. كان واثقًا بأنّ الله سيجعل مع التجربة المنفذ المناسب (١كورنثوس ١٠: ١٢). لجأ إلى الله يرفع صلاة من القلب مليئة بالشكر، والتسبيح، والتسليم لمشيئة الله وحكمته، وأنّ التجارب التي حلّت عليه والسبي الذي تعرّض له مع شعبه هي بسبب خطاياهم وتركهم وصايا الله « لأنّا لم نطع أوامرك فلأجل ذلك أُسلمنا إلى النهب والجلاء والموت» (طوبيّا ٢ : ٤).

أظهر طوبيّا في زمن الشدّة أنّه طيب الله بين أبناء شعبه. هكذا في وسط الشدائد، تسعى الجماعة إلى أن تتآزر وتبقى على إيمانها، وتحافظ على صِلتها بالله وبالآخرين بوقوف الأقوياء إلى جانب الضعفاء روحيًّا، مادّيًّا، ومعنويًّا، عبر الإحسان، وأعمال الرحمة، والصلاة والتسليم بأنّ الله هو الذي يرفع الضيق بعنايته ومحبّته، والوحيد الذي يعطينا سلامًا لا يقدر هذا العالم على أن يعطيه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

طوبيّا – الرجاء في الشدائد