ما هي المعاناة التي تستحقّ منّا كلّ تضحية وصبر وتعب؟ تساعدنا الشخصيّات الثلاث التي تؤلّف المثل المعروف بالابن الضالّ على الإجابة عن هذا السؤال، عبر تصوير أخّاذ لخبرة العلاقة بين أب وابنَيه والتي اتّخذها يسوع منطلقًا للإطلالة على علاقتنا بالله وإيماننا به، وتسطير طبيعة الشركة التي تجمعنا به.
ماذا تكشف لنا معاناة الابن الأصغر؟ هذا رغب في الاستقلال عن أبيه والتحرّر من الرباط الذي يجمعهما من أجل أن يحقّق ذاته، ظنًّا منه أنّ هذه العلاقة تعيقه. دخل غمار الحياة على جناح الحرّيّة، حرّيّة شابّ مغمور لديه إمكانيّات وأحلام ومدّخرات قدّمها له والده. أسرف في صرف ما لديه من وقت وطاقة ومال من دون أن يحقّق شيئًا حقيقيًّا أو مناسبًا أو مفيدًا لنفسه أو لغيره. اكتشف هشاشة أهدافه وهدْر طاقاته وسطحيّة علاقاته بعد أن صار إلى الحضيض. قادته هذه المعاناة إلى معرفة حقيقة نفسه وحقيقة والده فاتّضع ورغب في أن يتوب إلى أبيه، ويقرّ بذلك أمامه ويعترف بخطئه، وأن يقيم، لو عن غير استحقاق، كأجير في البيت الأبويّ.
ماذا تكشف لنا معاناة الابن الأكبر؟ نكتشفها من جرّاء واقع أخيه المستجدّ في المنزل الأبويّ والاحتفال بتوبته، وذلك عبر موقف تلوّن بالامتعاض والحرد والعتاب فالرفض والإدانة. صرّح بأنّه بنى موقفه على خلفيّة انتهازيّة أخيه وإباحيّته، وعلى تعاطي والده المجحف معه والغفور مع أخيه. فوالده بالغ في تقدير أخيه عبر مسامحته إيّاه وتكريمه، بينما انتقص من حقّه ولم يقدّر مناقبيّته ولا اجتهاده ولا أمانته. غار من أخيه وأدان حكمة والده وصوابيّة عدالته مع ولدَيه. أتت معاناته من كونه معجبًا ببرّه الذاتيّ وبأمانته في بيت أبيه، ومن اعتقاده بأنّه يستحقّ كلّ إكرام. كانت هذه هي الحقيقة من وجهة نظره. فهل كانت تستحقّ كلّ هذه المعاناة؟ لقد أضاف عليها بأن وضع أبيه في موقع المديونيّة تجاهه، وأقصى نفسه عن العائلة مقيمًا نفسه صنوًا لأبيه وجلّادًا لأخيه!
هنا تكتمل أمامنا عناصر المعاناة لدى الأب. هذا رافق نموّ ابنه الأصغر في درب تدرّبه على استخدام حرّيّته وتحقيق ذاته. أطلقه في رحاب الوجود وسلّحه بقِيَم وموارد. تركه يتعلّم من أخطائه ويكتشف معنى البنوّة وما تتضمّنه من حرّيّة وسلطان كرامة وإمكانيّات ومسؤوليّة. بالعناية ذاتها رافق تعثّر ابنه الأكبر في تقبّل تقلّب أحوال أخيه ومرافقتها بمحبّة وتفهّم واحتضان، وفتح له باب أن يتجاوز غيرته وأنانيّته وصوابيّة منطقه وحقّانيّته، عبر التأكيد له على موقعه في البيت الأبويّ وحقيقة نيّاته تجاهه من حيث الاشتراك في النعمة والتقدير والكرامة. دعاه إلى الخروج من ذاته عبر سلسلة من الخطوات البنّاءة: المشاركة في الفرح القائم في البيت الأبويّ عوضًا من تثبيت شعور المرارة في قلبه، وتقدير المنحى الذي اتّخذه أخوه عوضًا من تحقيره على خلفيّة أفعاله السابقة والتشفّي منه، وتشجيع أخيه في مساره الجديد عبر الوقوف إلى جانبه عوضًا من مقاطعته، وتمتين الأواصر مع أفراد العائلة الواحدة والذود عنها عوضًا من التفريط بها وتقطيع أوصالها.
سعى الأب إلى أن يحصّن مسار كلّ من ابنَيه في الحقيقة التي فقدها ولا بدّ له من العمل على استعادتها والثبات فيها. إنّها معاناة الأب معهما من أجل نموّ كلّ منهما في الحقيقة واشتراكهم جميعًا فيها وتعاضدهم مع بعضهم في عيشها. إنّها الكرامة التي تنشأ من العلاقة بين الأب وابنه والتي تطبع العلاقة بين الإخوة أيضًا، ونقصد بالأخصّ كرامة البنوّة التي يمنحها الله للمؤمنين به، وتاليًا كرامة الأخوّة التي تجمع بينهم. أَلم يكن هذا مفاد ما قاله الأب لابنه الأكبر: «يا بنيَّ، أنتَ معي في كلّ حين وكلّ ما لي فهو لك. ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسرّ لأنّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجِد» (لوقا ١٥: ٣١-٣٢)؟ هل يساعدك هذا المناخ الأبويّ الذي يطرحه يسوع عليك على الانطلاق من جديد، أيًّا كان مَن يمثّلك بين شخصيّات الـمَثَل الثلاث، ومساعدة إخوتك على سعي مماثل، فنفرح معًا، في البيت والعائلة والكنيسة والوطن، بعد معاناة من أجل الحقيقة؟
سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: ١كورنثوس ٦: ١٢-٢٠
يا إخوة، كلّ شيء مباح لي ولكن ليس كلّ شيء يوافق. كلّ شيء مباح لي ولكن لا يتسلّط عليّ شيء. إنّ الأطعمة للجوف، والجوف للأطعمة، وسيُبيد الله هذا وتلك. أمّا الجسد فليس للزنى بل للربّ والربّ للجسد. والله قد أقام الربّ وسيُقيمنا نحن أيضًا بقوّته. أما تعلمون أنّ أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخذ أعضاء المسيح وأَجعلها أعضاء زانية؟ حاشى. أما تعلمون أنّ من اقترن بزانية يصير معها جسدًا واحدًا لأنّه قد قيل يصيران كلاهما جسدًا واحدًا. أمّا الذي يقترن بالربّ فيكون معه روحًا واحدًا. اهربوا من الزنى، فإنّ كلّ خطيئة يفعلها الإنسان هي في خارج الجسد، أمّا الزاني فإنّه يخطئ إلى جسده. أَم ألستم تعلمون أنّ أجسادكم هي هيكل الروح القدس الذي فيكم الذي نلتموه من الله، وأنّكم لستم لأنفسكم لأنّكم قد اشتُريتم بثمن؟ فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله.
الإنجيل: لوقا ١٥: ١١-٣٢
قال الربّ هذا المثل: إنسان كان له ابنان. فقال أصغرهما لأبيه: يا أبتِ أَعطني النصيب الذي يخُصّني من المال. فقسم بينهما معيشته. وبعـد أيّام غير كثيرة جمع الابنُ الأصغر كلّ شيء له وسافر إلى بلد بعيد وبذّر ماله هناك عائشا في الخلاعة. فلمّا أَنفق كلّ شيء حدثت في ذلك البلد مجاعة شديدة، فأخذ في العوز. فذهب وانضوى إلى واحد من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقوله يرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يُعطه أحد. فرجع إلى نفسه وقال: كم لأبي من أجراء يفضُل عنهم الخبز وأنا أهلك جوعًا. أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له: يا أبتِ قد أخطأتُ إلى السماء وأمامك، ولستُ مستحقًا بعد أن أُدعى لك ابنًا فاجعلني كأحد أُجَرائك.
فقام وجاء إلى أبيه، وفيما هو بعد غير بعيد رآه أبوه فتحنّن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عنقه وقبّله. فقال له الابن: يا أبتِ قد أخطأتُ إلى السماء وأمامك ولستُ مستحقًا بعدُ أن أُدعى لك ابنًا. فقال الأب لعبيده: هاتوا الحُلّة الأُولى وأَلبِسوه، واجعلوا خاتمًا في يده وحذاء في رجليه، وأْتُوا بالعجل الـمُسمّن واذبحوه فنأكل ونفرح، لأنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجد. فطفقوا يفرحون.
وكان ابنُه الأكبر في الحقل. فلمّا أتى وقرُب من البيت سمع أصوات الغناء والرقص. فدعا أحد الغلمان وسأله: ما هذا؟ فقال له: قد قَدِم أخوك فذبح أبوك العجل المسمّن لأنّه لقيه سالمًا. فغضب ولم يُرِد أن يدخُل. فخرج أبوه وطفق يتوسّل إليه. فأجاب وقال لأبيه: كم لي من السنين أَخدمك ولم أَتعدَّ لك وصيّة قطّ، وأنت لم تُعطني قطّ جدْيًا لأفرح مع أصدقائي. ولمّا جاء ابنُك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحتَ له العجل المسمّن! فقال له: يا ابني أنت معي في كلّ حين وكلّ ما هو لي فهو لك. ولكن كان ينبغي أن نفرح ونُسَرّ لأنّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجد.
أحد الابن الضالّ
كلمة الراعي
الفرح بعد المعاناة من أجل الحقيقة