نعيّد له في الـ١٧ من هذا الشهر. وجهه إطلالة رجل أراد ان يطيع الإنجيل طاعة لا مساومة فيها. فالجماعات المسيحيّة أخذت تضعف روحيًّا في أيّامه لأنّ الكثيرين اعتنقوا المسيحيّة بخفّة. أعداد كثيرة تدخل بلا فهم فكيف يكون المؤمن حاملاً المسيح في الفترات التي لا يستشهد فيها شهيد؟ أحسّ أنطونيوس أنّ الشهادة الكبرى أن يميت الإنسان شهواته، وحاول إتمام ذلك بصورة رائعة. ألهمه الله نمطًا جديدًا من الحياة هو الرهبانيّة، شيئًا لا يزال الكثيرون يستغربونه فليس عنه حديث في العهد الجديد، ولكنّه يجيء من روح العهد الجديد، طريقة تحمل إماتة الإنسان لنزواته والانتصار على الجسد والكبرياء والتسلّط. الرهبانيّة حركة جعلت الكنيسة أكثر جدّيّة وأصلب، وأنتجت أجمل ما عندنا من عبادة وترنيم. وهي التي أسهمت الإسهام الكبير في حضارة الشعوب الأرثوذكسيّة في مناطقنا وأوروبّا الشرقيّة.
طلبًا للجمال الروحيّ، ظهر فتى في مصر في منتصف القرن الثالث، وتوفّي فيها السنة الـ356 متجاوزًا مئة عام. ابن فلّاح مصريّ شبه أمّيّ، وبعيدًا عنه يقيم في الإسكندريّة العاصمة مسيحيّو الترف. نشأ في بيئة كنسيّة، فالصلاة مألوفة لديه حتّى دوّت في أذنيه كلمة من الإنجيل هزّت كيانه كلّه: «إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع ما تملكه ووزّعه على الفقراء وتعال اتبعني». اعتبر أنطونيوس أنّ عليه أن ينفّذ هذا الكلام تنفيذًا حرفيًّا. فانقطع عن العالم على مراحل ثلاث غايته الوصول إلى عزلة كاملة لا يكون فيها أيّ عائق دون التصاقه بالله. أقام في البدء بجوار قريته طلبًا لإرشاد شيخ كان أكثر منه خبرة في الحياة الروحيّة، فالجهاد الروحيّ يتطلّب توجيهًا قاسيًا لئلّا يقع الإنسان فريسة الخيال، ثمّ قضى نحو عشرين سنة في برج رومانيّ مهمل حتّى توغّل أخيرًا في الصحراء.
يزيد التقشّف شيئًا فشيئًا فلا توبة حقيقيّة بلا سلطان على رغبات الجسد. الإمساك فيه يقظة كثيرة. ربّما لاح لنا من سيرة أنطونيوس ومن تبعه أنّ نسكهم كان شديدًا، إذ كانوا يكتفون بالحدّ الأدنى من الطعام والنوم. عراء شبه كامل، لكنّ الحماسة الروحيّة فيهم كانت تملي عليهم هذا السلوك. كان إحساسهم أنّ وراء الشراهة واسترخاء الجسد والمزيد من التنعيم، حضور روح شرّير. لهذا انتصب أنطونيوس المعلّم الكبير في التصدّي للشيطان. هذا ما حفظه الأدب العالميّ والفنّ عنه.
هذا كلّه رافقته عند أنطونيوس صلاة دائمة فيسوع يتحدّث إليه وإلّا فكيف يكون حبيبًا. وهذا ترافقه قراءة الكتاب المقدّس باللغة القبطيّة، التي ما كان يعرف قدّيسنا سواها. الأدعية والإنجيل تلطّف نفسه ولا تنسيه في عزلته الكنيسة المعذّبة. مرّتين ترك البراري إلى الإسكندريّة. في جولة أولى قصد المدينة ليشجّع المؤمنين على تحمّل آلامهم أثناء الاضطهاد الذي أحلّه بهم ديوكليسيان. وفي جولة ثانية ليدعم الأساقفة الأرثوذكسيّين في نضالهم ضدّ الهرطقة الأريوسيّة الناكرة ألوهيّة المسيح. قلب الراهب دائمًا مع الكنيسة المجاهدة.
شعّ أنطونيوس في حياته فأقبل عليه الشباب من كلّ صوب ليعيشوا بكلمة من فمه. في الحقيقة، طهارته كانت أبلغ من كلامه فذاع نوره في كلّ مصر، شمالًا وجنوبًا ونشأت أديرة كثيرة بتأثيره، وأهمّها اليوم ما هو في صحراء الأسقيط ووادي النطرون، الذي يقع اليوم على بعد ساعة في السيّارة من القاهرة.
أنطونيوس منتصب عبر الأجيال أستاذنا في المسيحيّة الملتزمة المحيية في دقّتها، الفرحة بسبب من جدّيّتها والمعزّية أبدًا.