“سورية مهد المسيحيّة”، عبارة صحيحة يؤكّدها التاريخ والجغرافية ومدوّنات سيير القدّيسين وقوافل الأصفياء والأبرار. سورية أنطاكية ودمشق وحوران وبُصرى والرصافة وحلب وحمص وحماه واللاذقيّة وطرطوس وصافيتا ووادي النصارى وصيدنايا ومعلولا… سورية التي إذا نبشنا في ترابها في كلّ بقعة من بقاعها لوجدنا أثرًا مسيحيًّا، بقايا كنيسة، صلبانًا، شواهد قبور، مخطوطة… سورية تقلا أولى الشهيدات وإغناطيوس الأنطاكيّ وسمعان العاموديّ ومارون الناسك ويوحنّا الذهبيّ الفم ومكسيموس المعترف ورومانوس الحمصيّ المرنّم وأفرام وإسحق السريانيّين…
“سورية مهد المسيحيّة”، عبارة يؤكّدها الكتاب المقدّس في العديد من مواضعه. القدّيس متّى الإنجيليّ يعلن في بداية بشارته أنّ الربّ يسوع كان يطوف في الجليل ليكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مرض وكلّ ضعف في الشعب، ويتابع الإنجيليّ قائلاً: “فذاع صيته في جميع سورية” (متّى ٤: ٢٤). ولا ننسى أنّ التلاميذ قد “دُعوا مسيحيّين في أنطاكية أوّلاً”، وفق سفر أعمال الرسل (١١: ٢٦). وفي دمشق بدأ القدّيس بولس الرسول بشارته (أعمال الرسل ٩: ٢٠)، ومنها انطلقت رحلاته إلى المسكونة كلّها. وعلى مرّ التاريخ لم تخلُ مدينة أو منطقة منها من حضور مسيحيّ، اندثر في بعضها بسبب عوامل عديدة، ولم يزل حيًّا في بعضها الآخر.
تمـرّ سوريـة اليوم في ظروف صعبة، ويتساءل الكثيرون عن مصير المسيحيّين في سورية بخاصّة، ومسيحيّي بلاد المشرق بعامّة. وأتت الأحداث الأخيرة في بعض المناطق ذات الطابع المسيحيّ لتُثير القلـق لدى المسيحيّين عمومـًا في شأن مستقبلهم. فبعد التدمير الذي لحق بكنـائس مدينـة حمص، ومنها كنـائس أثريّة قديمة، وبعد هجرة العديد من المسيحيّين إلى مناطق في الداخل أكثر أمانًا، أو إلى الخارج، أكّدت الأحداث الأخيـرة التي جرت في معلـولا ووادي النصارى مخاوف البعض وخشيتهم من أن تؤثـّر هذه الهجمـات على مستقبل المسيحيّين وبقائهم في أرض آبائهم وأجدادهم.
تقع بلدة معلولا في جبال القلمون، أي في المقلب الشرقيّ من سلسلة جبال لبنان الشرقيّة، في موقع فريد وغريب في شُعب (شقّ أو فجّ) بين جبلين. منازلها مشيّدة على الصخر وكأنّها منها، مسالكها ضيّقة وعرة، وفي منعطفات الجبل مغاور وكهوف وسيعة كان يتحصّن فيها السكان أيّام الغزوات القديمة. وتتميّز معلولا بالمحافظة على لغتها المعلوليّة التي هي لهجة من اللهجات السريانيّة الآراميّة التي تكلّم بها السيّد المسيح في تعليمه ومواعظه وخطبه، والتي دوّنت بها أجزاء من إنجيل القدّيس متّى، والتي ما يزال بعض سكّانها يستخدمونها حتّى يومنا هذا. وتضمّ معلولا آثارًا جمّة، من مغاور وكهوف وأديار وكنائس ومعابد، هي شواهد لما كانت عليه في الزمن الغابر من الحضارة والإبداع وازدهار المسيحيّة.
اعتنقت معلولا الإيمان المسيحيّ منذ العصر الأوّل للمسيحيّة، وذلك عن طريق أحد الرسل أو أحد أتباعهم المباشرين القادمين من دمشق. وتشتهر البلدة بديرين كبيرين: دير القدّيسة تقلا (عيدها في الرابع والعشرين من شهر أيلول)، ودير القدّيسين سرجيوس وباخوس (عيدهما في السابع من شهر تشرين الأوّل). يتميّز دير القدّيسة تقلا بأبنيته المتينة الشاهقة، وبكنيسته الكبيرة التي جُدّدت حديثًا، وبمغارة قديمة تقع في نصف الجبل فيها شقّ يقطر الماء من أعلاه فيستحمّ فيه الزوّار تبرّكًا. والمغارة قديمة، كانت مزارًا معروفًا ثمّ قام الدير من حولها، ويُعتقد أنّه يضمّ قبر القدّيسة تقلا وفيه جثمانها، وقد بُني هذا المزار لإكرامها والتبرّك من ذخائرها.
أمّا دير القدّيسين سرجيوس وباخوس فيقع في أعلى البلدة، وموقعه جميل يُشرف على معلولا، وهو على ارتفاع ١٦٢٢ مترًا تكتنفه الصخور والآثار من مدافن وكهوف وأطلال. يحكى أنّ أصل هذا الدير كنيسة على اسم القدّيسين سرجيوس وباخوس اللذين استُشهدا بقرب سرجيوبوليس (الرصافة) عام ٢٩٧. ولعلّ المسيحيّين، بعد مرسوم ميلانو (٣١٣) وانفتاح الإمبراطوريّة البيزنطيّة على المسيحيّة ثمّ اعتبارها دين الدولة الرسميّ، قد دمّروا الهيكل الوثنيّ الذي كان قائمًا على اسم الإله أبولون، وشيّدوا في موقعه وعلى أطلاله دير وكنيسة القدّيسين سرجيوس وباخوس.
هذا التاريخ المجيد للحضور المسيحيّ في معلولا، وفي كلّ قرية سوريّة، يحثّنا على التمسّك بهذه الأرض التي تقدّست بصلوات الأبرار والقدّيسين على مرّ العصور والحقب. وقد استمرّ الوجود المسيحيّ في سوريا في ظلّ الاضطهادات كلّها، في ظلّ الدولة الرومانيّة، وفي ظلّ الخلافة الإسلاميّة، وحُكم المماليك والعثمانيّين، وذلك بفضل إيمان أجدادنا وتمسّكهم بالرجاء الذي وعدنا به الربّ يسوع. والتاريخ يُخبرنا أنّ المسيحيّين في غابر الأيّام لم تكن ظروفهم أفضل من ظروفنا اليوم، فهم عانوا وقاسوا من الظلم والعدوان ولم يلجأوا إلاّ إلى الصلاة والصوم والعبادات والتسليم المطلق للعناية الإلهيّة بهم. لم يبالوا بالاضطهادات، صمدوا في ديارهم، لم يبخلوا بدمائهم وحياتهم في سبيل بقائهم شاهدين للربّ حيث وُلدوا ونشأوا. بقوا أوفياء لمسيحيّتهم ولربّهم الفادي، فحملوا صليبهم إلى المنتهى.