...

لقاء جنينَيْن!

كانت مريم هناك، لمّا انحنت السماء على الأرض، لتُبشّرها بحبلها بابن الله الوحيد (لوقا ١: ٢٦- ٣٨). لم يذكر لوقا، في هذا الموقع من إنجيله، سوى اسم المدينة التي جرى فيها هذا الحدث الذي سيغيّر مسيرة الكون. قال “أَرسل الله الملاك جبرائيل إلى مدينة في الجليل اسمها الناصرة”. في أيّ بيت كانت مريم؟ من المرجّح أنّها في بيتها. ولكنّ الإنجيليّ لا يذكر! هل أراد، في أوّل ذكر لمريم، أن يترك خبره مفتوحًا على مدى كلّ بيوت الجليل (وتاليًا بيوت فلسطين والعالم كلّه)؟ أو هل أراد أنّ هذه الفتاة اليانعة هي بيت الله الجديد؟ ربّما أراد الأمرين معًا! وَقَبْلَ أن ينهي جبرائيل ما أُرسل من أجله، أخبر مريم أنّ “أليصابات قد حبلت أيضًا بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك التي كانت تُدعى عاقرًا”. وكانت هذه الكلمات الختاميّة وحيًا بقدرة الله على: عقر أليصابات التي كانت طاعنةً في السنّ، وعلى إيلاده ابنه من مريم فيما هي عذراء. وانصرف الملاك من عندها حاملاً عطر الأرض الجديدة: مريم، كلّها كلّها، تسليم لله!

هل الملاك، بذكره حبل أليصابات، أعطى مريم علامةً، لتزورها؟ هذا ما يبدو عليه الأمر. وبكلام واحد، هناك ربّ الملائكة والبشر، الروح الذي ملأ مريم وظلّلها (١: ٣٥)، هو الذي أراد لها أن تتمّ هذه الزيارة. فقامت مريم، تحرّكُها طراوةُ طاعتها، و”مضت مسرعةً إلى الجبل إلى مدينة في يهوذا”. وهنا، سمّى لوقا، عن قصد، البيت الذي دخلته. قال: “بيت زكريّا”. ثمّ تابع: “فسلّمتْ على أليصابات. فلمّا سمعت أليصابات سلام مريم، ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت من الروح القدس، فهتفت بأعلى صوتها: مباركة أنت في النساء! ومباركة ثمرةُ بطنك! من أين لي أن تأتي أمّ ربّي؟ فما إن وقع صوت سلامك في أذنيَّ حتّى ارتكض الجنين ابتهاجًا في بطني. فطوبى لِمَن آمنت: فسيتمّ ما بلغها من عند الربّ” (٣٩- ٤٥).

قلت سمّى بيت زكريّا عن قصد. فنحن، في هذا الخبر، يجب أن يكون يقيننا كاملاً أنّ لوقا، فيما كان يدوّن الحدث، لم يغمس ريشته بالحبر، بل بتفوّق جنين مريم على جنين أليصابات. سيولد يوحنّا في بيت. النـاس كلّهم يولدون في أمكنة. أمّا يسوع، فيختلف عن الناس جميعًا باختياره الإنسان بيتًا. وهذا التفوّق يؤكّده يوحنّا بارتكاضه. طفل، في حشا أمّه، يتحرّك أمام آخر في حشا أمّه. إنّها حكاية النبوّة التي تتحرّك أمام الله. من وقع الصوت، من طهر البيت الجديد الذي قرّر الله أن يسكنه، تعرف، وتتحرّك!

أمّا أليصابات، فتلقّت الزيارة تبريكًا لمريم ولثمرة بطنها. لا يسمح لنا لوقا بأن نسأل: كيف عرفتْ هذه السيّدة البارّة أنّ التي أمامها تحمل الربّ، ربّها؟ فالروح، الذي ملأ مريم، ملأها هي أيضًا. أمام الله الحاضر، تنكشف حجب المعاني الخلاصيّة، وتندفق! منذ البدء، يبرز لوقا إنجيليُّ العنصرة تنوّعَ مواهب الروح القدس. الروح، في مريم، أهّلها لأن تحمل ابن الله، وتمضي إلى بيت زكريّا، لتعين زوجته إلى آخر أيّام حبلها (١: ٥٦). وفي أليصابات، بدت نعمته ارتفاعَ صوتٍ تبريكًا وشهادة (ألم يورد لوقا نفسه، في أعمال الرسل ٢: ١٤، يوم العنصرة، أنّ بطرس “رفع صوته”؟). وفي يوحنّا، ابتهاج الصوت بالكلمة (١: ١٥).

اللقاء ما بين أليصابات ومريم (أو يوحنّا ويسوع) ينبئ بالآتي. كلّه إطلالة على تلك البرّيّة التي سيعلن فيها يوحنّا، “يوم ظهور أمره لإسرائيل” (١: ٨٠)، أن “توبوا، قد اقترب ملكوت الله” (متّى ٣: ٢). لقد نطقت أمّه (عنها و) عنه: “من أين لي أن تأتي أمّ ربّي؟”. رأت “بيت الله” الجديد، وقالت ما قاله قَبْلَها نبيّ قديم أمام تابوت العهد، أي أمام الصندوق الذي كان يدلّ على حضور الله وسط شعبه (٢صموئيل ٦: ٩). “أن تأتي أمّ ربّي”، هذا كلام في ابن الله الوحيد الذي هو ربّ العالمين. ولكنّ البراعة فيه أنّه يجترئ في إعلانه يسوع ربًّا شخصيًّا. سيمشي يوحنّا في هذه الجرأة إلى نهاية حياته. سيدعو الناس إلى ربّه الذي عرفه في البطن. ثمّة رجال في القديم كُتب عنهم أنّ الله اختارهم من بطون أمّهاتهم (قضاة ١٣: ٥، ١٦: ١٧؛ إرميا ١: ٥؛ إشعيا ٤٩: ١ و٥). أمّا يوحنّا المعمدان، فيختلف عن الكلّ بأنّه قد أُهّل لأن يعرفه في البطن!

لا يذكُر لوقا أنّ مريم، التي “أقامت عند أليصابات نحو ثلاثة أشهر”، كانت حاضرةً يوم ولادة يوحنّا. فخبر ولادته (١: ٥٧) يرويه بعد أن يؤكّد أنّـهـا قـد “عادت إلى بيتها” (١: ٥٦). وسيفعل الإنجيليّ ما يشبه هذا الأمر عندما سيذكُر خبر سَجن يوحنّا (٣: ٢٠) قَبْلَ أن يذكُر، بكلمات خاطفة، معموديّة يسوع (٣: ٢١). هل قال كلّ شيء بالتقاء الجنينَيْن كلٍّ في بطن أمّه؟ هذا، إلى غرابة ذكر سجن يوحنّا قَبْلَ معموديّة يسوع، يفسّره أنّ التراث الإنجيليّ يصرّ على أنّ المعمدان انحجب قَبْلَ ظهور يسوع (متّى ٤: ١٢؛ مرقس ١: ١٤). انحجابه، الواعي في البطن، يكشف أنّ حياته ستكون انحجابًا تلو انحجاب. يكشف أنّ زمانه ينتهي أمام زمان مسيح الله. وعندما سيظهر، لن يقول شيئًا أعلى من انحجابه. كلّ رسالته ستكون دفعًا للناس إلى الآتي بعده، إلى الحاضر قَبْلَهُ (يوحنّا ١: ٢٥). سيقول، بألوان عديدة، أنا لست بشيء، بل هو كلّ شيء. وسيهبه الوحي نعمة أن يرى يسوع، من بُعد لا يشبه البُعد، سائرًا إلى صليبه (يوحنّا ١: ٢٩)!

عندما قال الربّ: “ليس في أولاد النساء أكبر من يوحنّا” (لوقا ٧: ٢٨)، هل مرّ بباله ارتكاضه ببطن أليصابات؟ يمكن! فيوحنّا، وحده بين أولاد الناس، أُنعم عليه بأن يعرف الربّ، إلهه وإلهنا، فيما كان في بطن أمّه. وزاده ربّه أن يسكن ابتهاج التبليغ، في كلماته وحياته، أنّ السماء باتت هنا حقًّا!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لقاء جنينَيْن!