...

الشمّاس عبدالله ابن الفضل الأنطاكيّ

من أكثر الكتّاب والمترجمين الأكثر غزارة في الكنيسة الأنطاكيّة لقرون طوال. عاش في القرن الحادي عشر، بحسب ما تشير إليه بعض المخطوطات. ولكن ما خلّفه لنا من مؤلّفات سيبقى أثره خالدًا. سيرة حياته غير معروفة بالتحديد. جلّ ما وصل إلينا عن حياته بضع ملاحظات ذكرها النسّاخ والكتّاب الذين جاؤوا من بعده. هذا الأمر مألوف في تاريخ الكنيسة. فحتّى المعلّمين الكنسيّين الكبار، مثل القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، كتبت سيرتهم بعد قرونٍ من رقادهم. هذا يعني أنّنا نعرف الكتّاب من مصنّفاتهم التي تركوها لنا. بالعودة إلى الشمّاس الأنطاكيّ نجد أن النسّاخ اللاحقين أطلقوا عليه ألقابًا تلقي الضوء على أهمّيّته. فتارةً يلقّبونه بـ«الشمّاس القديس والحكيم»، وطورًا بـ«الشيخ القدّيس» أو بـ«الفيلسوف الحكيم والترجمان للكتب الإلهيّة» أو «المعلّم» أو «الشمّاس الجليل» أو بـ«أبي الفتح». تلك كانت عادة المسيحيّين، وتستمرّ حتّى الآن للدلالة على رفعة المقام. هذا يُظهر جليًّا المكانة الفكريّة والأدبيّة التي تمتّع بها عبدالله ابن الفضل. أكثر ما يبرز مكانة هذا الكاتب هو ما ذكره عنه البطريرك الأنطاكيّ مكاريوس ابن الزعيم (+١٦٧٢) في مقدّمة «تاريخه من عهد آدم إلى أيّام قسطنطين» (أبقينا نصّ البطريرك مكاريوس من دون تصحيح لغويّ):

«فلما نظر الله صبر النصارى رحمهم وأرسل لهم رجل فاضل يدعى الشماس عبد الله بن الفضل… وكان عالـمًا جدًا بلغة العربية واليونانية والسريانية فأخرج للمسيحيين سائر الكتب العتيقة والجديدة المقدسة مع سائر تفاسيرها للغة العربية وأمرهم بقراءتها في سائر السبوت والآحاد والأعياد السيدية وأخبار القديسين وأفنى كل عمره في هذه الأعمال الصالحة…».

إذا درسنا هذه السطور القليلة نستنتج أنّ البطريرك مكاريوس كان يعتبر الشمّاس عبدالله هديّة من الله أرسلها لشعب كنيسة أنطاكية ليساعد أبناءها على الثبات في الإيمان. فبفضل غزارة معارفه وتمكّنه من اللغات المذكورة ترجم الشمّاس عبدالله الكتاب المقدّس (هذا هو المقصود بقول البطريرك إنّ ابن الفضل «أخرج الكتب العتيقة والجديدة المقدّسة مع سائر تفاسيرها». وبالفعل ترجم ابن الفضل الكتاب المقدّس الطقسيّ أي بحسب التقسيم الذي يستعمل في خدم الكنيسة. بالإضافة إلى ذلك ترجم تفاسير الكتاب المقدّس ليساعد المؤمنين على فهم النصوص. وقول البطريرك عنه «وأمرهم بقراءتها» دلالة على مركزه الذي كان يشغله في كنيسة أنطاكية. ففي ذلك الوقت كان من المألوف في الكنيسة الأرثوذكسيّة وجود رتبة «معلّمين» في الكنيسة. فليس كلّ كاهنٍ أو شمّاسٍ معلّمًا حكمًا. (الكنيسة كانت واضحة في هذا الشأن في القديم، وليتها تعيد هذه الرتبة مجدّدًا. فقد يكون الكاهن على سبيل المثال ممتازًا في الشأن الإداريّ أو الرعائيّ ولكنّه غير موهوب في التعليم، والعكس صحيح. لذا كانت الكنيسة تحدّد من الذي يعلّم ومن الذي يخدم ونادرًا ما كانت تجتمع كلّ الصفات في شخصٍ واحدٍ).

وكان ابن الفضل يُكلّف في بعض الأحيان من قبل بعض الأساقفة لتأليف كتابٍ أو ترجمة مصنّفٍ حسب حاجة الأبرشيّة. يُذكر أنّ «كتاب المزامير» هو من أشهر ما ترجمه لنا واستعملته الكنيسة الأنطاكيّة نحو ٩٠٠ سنة، قبل صدور نسخة عبدالله عرمان السنة ١٩٥٤ الذي يذكر أنّه استند في ترجمته أيضًا إلى نصّ ابن الفضل. واللافت في هذا الشمّاس هو استعماله اللغة العربيّة في أعماله رغم أنّه كان ناشطًا

في الفترة التي كانت أنطاكية قد تحررت من حكم العرب المسلمين، وأعيدت تحت حكم البيزنطيّين من ٩٦٩ وحتّى ١٠٨٤. وكأنّي بهذا الشمّاس يعكس حالة رفض يوننة الكنيسة الأنطاكيّة.

ولكنّ نشاط ابن الفضل لم يقتصر فقط على ترجمة النصوص الكتابيّة بل كانت دائرة اهتمامه تشمل تفسيرات الآباء القدّيسين، والكتب الروحيّة العقائديّة، وله باعٌ طويل في الفلسفة والمنطق. وفي ما يلي لائحة بمصنّفاته توضح للقارئ سعة معرفة الشمّاس عبدالله ابن الفضل:

– كتاب «بهجة المؤمن» في السؤالات اللاهوتيّة والفلسفيّة وهي مرتّبة بشكل أسئلة وأجوبة. يعدّ هذا الكتاب من أفضل المؤلّفات المسيحيّة لما فيه من التآليف اللاهوتيّة والتقسيمات الواردة باطنه عن مبدع العالم، وعن الخليقة.

– مقالة تشمل معاني نافعة للنفس استخرجها من أقوال الآباء القدّيسين والفلاسفة.

– مقدّمة الزبور/المزمور الإلهيّ.

– رسالة الحدود من كتاب المنفعة.

– شهادات على مجيء المسيح من التوراة والأنبياء.

– كتاب المنفعة الصغير.

– كتاب المنفعة الكبير (هو مؤلّف دينيّ واسع جامع لشتات العلوم والفنون كالمنطق واللاهوت والفلسفة والجدل وجوهر النفس وحواسّها والفلك وعلوم اللغة وآدابها).

– شرح الأمانة المستقيمة (كتاب عقائديّ يلخّص تعليم الكنيسة الأرثوذكسيّة ويضحد تعاليم اليعاقبة والنساطرة).

– السؤالات المختصرة والأجوبة عنها.

تعريب أعمال الآباء:

– السفر الأوّل من التوراة في ٦٧ مقالة مع ٦٧ عظة للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.

– «تفسير إنجيل القدّيس متّى البشير» (في ١٥٠٠ صفحة كبيرة) للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.

– «تفسير إنجيل القدّيس يوحنّا» ويشتمل على ٨٨ مقالة و٨٨ عظة للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.

– شرح رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيّين.

– «تفسير ستّة أيّام الخليقة» للقدّيس باسيليوس الكبير.

– «أحسن ما قال القدّيس باسيليوس».

– كتاب «خلقة الإنسان وشرف معانيه» للقدّيس غريغوريوس النيصصيّ.

– «في الروحانيّات» القدّيس إسحق السريانيّ.

– «كتاب البرهان في تثبيت الإيمان» للقدّيس صفرونيوس بطريرك أورشليم.

مصنّفات أخرى:

«لمحة عن سلسلة البطاركة الذين صاروا على كرسي أنطاكية»، «قانون رهبان أديرة جبل آثوس المقدّس».

ختامًا لا يمكننا إلاّ أن نقول إنّ هذا الشمّاس الأنطاكيّ قدوة يحتذى بها في كنيستنا الأنطاكيّة لما له من علمٍ ومعرفةٍ وغيرة على كنيسته وعلى حفظ الإيمان المستقيم. وما شاء شمّاسنا أن يبرز هو بل همّه كان بهاء عريس الكنيسة وليس شخصه فتمّم قول المعمدان «ينبغي له أن يزيد ولي أن أنقص».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشمّاس عبدالله ابن الفضل الأنطاكيّ