تلاوة إنجيل اليوم، التي تروي لنا عن ترائيين ليسوع أمام تلاميذه الأحد عشر (يوحنّا ٢٠: ١٩- ٣١)، وقّعت في هذا الأحد الذي يلي عيد الفصح العظيم، لنبقى في الفرح الثابت بأنّ الربّ قد قام حقًّا.
كنت على وشك أن أبدأ هذه المساهمة بقولي إنّ هذه التلاوة لا يمكن أن يدرك الهدف من توقيعها، في هذا اليوم، سوى الذين أحزنهم أنّ الصوم قد انتهى. لكنّني تراجعت خوفًا من أن أُفهم أنّني أنتقص من وهج فرح الفصح. هل كنت محقًّا في تراجعي؟ أمّا ما لا يليق بنا أن نتراجع عنه، فأنّ المسيحيّة، التي شأنها أن تربّينا على دوام الإخلاص للحقّ، لا تسمح لنا بأن ننسى، لحظةً، أنّنا مرتحلون في الأرض!
كان الصوم رحلة، لنتعلّم أنّنا مرتحلون. وبلغ الصوم غايته في تعييدنا للفصح. ولكنّ الارتحال، نهجًا، باقٍ معروضًا لنا. هل تراجعت عن تراجعي؟ لا، فالنصوص الإنجيليّة، التي تمدّها الكنيسة على مائدة آحاد الفصح، هي عينها وضعت، لنستدلّ منها على سبيل بقائنا مخلصين لله في الفصح وبعده.
ما سأفعله، في ما يلي، أنّني سأسترشد تلاوة إنجيل اليوم عن هذا الإخلاص في أمرين. أوّل هذين الأمرين أنّ يسوع الممجّد تراءى لتلاميذه، في المرّتين المبيّنتين، في يوم أحد. في المرّة الأولى، يسمّي الإنجيليّ اليوم، الذي تراءى فيه يسوع، “أوّل الأسبوع”. وفي الثاني، يقول إنّه تمّ “بعد ثمانية أيّام”. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ الكنيسة تنتظر أن نبدي اقتناعًا أبديًّا بأنّ المسيحيّة هي، كلّها كلّها، “يوم أحد”، أي هي اليوم الذي يجمعنا فيه، مؤمنين، جسد الربّ ودمه المباركان. هنا، الذين أحزنهم أنّ الصوم، وما فيه من لقاءات يوميّة، قد انتهى، يجب أن يبيّنوا اعتقادًا أنّ الله، الذي طلبوا قربه في موسم نسكيّ، موجود بكامل مجده في كـلّ يـوم أحـد (أي في قـدّاس يوم الأحد). فيـوم الأحد هو اليوم الذي يعطي شعب الله أن يذوق بركات اليوم الثامن الذي هو، في تراثنا، يوم اكتمال الملكوت. هذا وعيه قادر على أن يعلّمنا الإخلاص لله، أي يعلّمنا أن نكثّف حبّنا لله، الذي أحبّنا أوّلاً، كلّما دعانا إلى نلتقي به، ونأكل على مائدته المقدّسة. فيوم الأحد، هو هو، نوع من أنواع الارتقاء إلى اليوم الثامن، أي إلى أبد الله الآتي!
هذا، تحديدًا، ما ينتظر الله أن يتبنّاه الإخوة جميعًا، أي الذين يلتزمون العبادة في غير يوم أحد، والذين يجتهدون في حماسهم في الصوم باعتبار أنّه موسم تقرّب ينتهي الجهاد بانتهائه! الأوّلون دعوتهم أن يزيدوا في قوّة التزامهم، والآخرون أن يبطلوا اعتبارًا هم يحرّكونه، ويرتضوا ما يحرّكنا الله إليه.
أمّا الأمر الثاني، فيكشفه أنّ المسيح أظهر، في ترائيه، أنّه يحمل آثار جراح صليبه. ما علاقة هذا الكشف بالإخلاص لله؟ لا أعتقد أنّ أحدًا بالغًا يجهل أنّ هذا العالم جراحٌ كلّه. جراح في البيت، في العلاقات الزوجيّة، في تربية الأولاد، في العمل، في الصداقات… الكنيسة، في توقيعها هذا الإنجيل اليوم، أي في أوّل أحد يلي عيد الفصح توًّا، لم تشأ أن تختار نصًّا يبدي يسوع نورًا من دون جرح، دون دم!، بل اختارت ما يعطينا أن ندرك، في هذه الفترة الفصحيّة ومتى خرجنا منها، أنّ للربّ الممجّد خبرة الجراح أبدًا.
ثمّة مسيحيّون، لا عدّ لهم، من أبناء كنيستنا وغيرها، يرضيهم أن يعتقدوا أنّ المسيحيّة تعلّمنا أن نسعى إلى أن نشارك الربّ في جراحه (ألا يصبر بعضنا على الجراح باعتبارها شركة “مع آلام المسيح”؟). ومن دون أن نغرق أنفسنا في التعليق على هذا المعتقد، يكفي أن نقول إنّ الكنيسة تريدنا أن نرتقي إلى ما هو أعلى منه، أي إلى أنّ الربّ أراد أن يدلّنا على أنّه باق يشاركنا في كلّ ما يجرحنا في الأرض.
في قراءتنا هذه التلاوة، نحن لا نقول إنّ توما، بطلبه أن يضع يده مكان جراح الربّ، أراد أن يتبيّن أن يسوع أراد أن يشاركنا في آلامنا، بل أنّه هو الذي قام. ولكنّنا لا نفهم شيئًا من إله، أصرّ على أن يبقى حاملاً جراحه، إن لم نره يصرّ على إقناعنا بشركةٍ معنا يأبـى أن يـقطـعـهـا في أيّ حـال. المسـيـح بـاقٍ، إلـى أبـد الدهور، يحمل علامات حبّه لنا. هذا قبوله دربنا إلى الوعي المخلص، أو قِمّة الوعي المخلص!
كلّنا نعلم أنّ الربّ يحبّنا. والربّ، في ترائيه، أراد أن نزداد علمًا أنّه لا يحبّنا أقوياء أو أصحّاء فقط، بل “طبقًا لما نحن عليه” دائمًا. كلّ أديان الأرض شرائع وقوانين. والمسيحيّة كلّها أنّ الله يحبّنا دائمًا.
قلت أمرين. ولكنّهما، في واقعهما، أمر واحد. أن نأتي إلى الله في صبيحة كلّ يوم أحد، لهو أن نأتي إلى إله المحبّة التي لا تنضب. هذا منبع إيماننا: أن نحيا إفخارستيًّا، أي شكرًا موصولاً لإله يحبّنا.
قبل أن نعيد الفصح، قلت لأخ بعد أن أنهى اعترافه: “ليست مشكلتي، في هذا الاعتراف، هي ما سمعته، بل ما لم أسمعه، أي أنّك لا تشكر لله ما أنعم به عليك”. أجابني: “في كلّ ليلة، لا يمكن أن تتصافح عيناي قبل أن أشكره”. ثمّ ردّد أمامي، عن ظهر قلب، صلاةَ شكرٍ هو ألّفها. حيّيته على هذه الصلاة، ثمّ قلت له: “إنّما الشكر يختصّ بكلّ لحظة”. أن نحيا إفخارستيًّا، لهو أن نستمدّ من هذا اللقاء الشكريّ (القدّاس الإلهيّ) أن تصدح قلوبنا، على عدد دقّاتها، شكرًا لك، يا ربّ. شكرًا لك في غير حال، حال الصحّة وحال الجرح. حال القوّة وحال الضعف. حال العسر وحال اليسر. حال السلام وحال القلق. فالشكر له هو دليلنا الكامل على أنّنا نعي أنّ الله هنا، يرافقنا في أحوالنا كلّها، ويحمل مصاعبنا معنا أو عنّا.
الصوم انتهى. يبقى أن “نرى الربّ عن يميننا دائمًا، لئلاّ نتزعزع” (أعمال الرسل