يرفض القرآن واقعة صلب السيّد المسيح، فيقول: “وقولهم (أي اليهود) إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم. وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلاّ اتّباع الظنّ وما قتلوه يقينًا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا” (سورةالنساء، ١٥٧-١٥٨). القرآن، إذًا، يؤكّد أنّ اليهود لم يقتلوا المسيح ولم يصلبوه ولكن شبّه لهـم ذلـك، أي أنّهـم صلبـوا شخصـًا آخـر ألـقـي عليه شبه المسيح، أو أن تكون حادثة الصلب كلّها قد شُبّهت لهم. ولا يعطي النصّ القرآنيّ تفاصيل عن كيفيّة حدوث هذا الأمر ولا يكشف شخصيّة ذاك الذي صُلب مكان المسيح.
يذكر الرازي (ت ١٢٠٩ م)، أحد كبار المفسّرين المسلمين، في كتابه “مفاتيح الغيب”، مختلف الروايات المتداولة في شأن صلب المسيح ومَن حلّ محلّه. فيقول: “إنّ اليهود لمـّا قصدوا قتل المسيح رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامّهم فأخذوا إنسانًا وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس أنّه المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلاّ بالاسم لأنّه كان قليل المخالطة بالناس”. هذا الرأي ضعيف والحجّة الواردة فيه غير مستقيمة، لأنّ المسيح كان يظهر في الهيكل ويعلّم فيه، وكان يجول في اليهوديّة والسامرة والجليل وتتبعه الجموع.
أمّا مَن هو الشخص الذي وقع عليه شبه المسيح وصلب مكانه، فيورد الرازي أربعة احتمالات: ١) إنّ اليهود لما علموا أنّ المسيح حاضر في البيت الفلانيّ مع أصحابه، أمر يهوذا رأس اليهود رجلاً يقال له طيطايوس أن يدخل على عيسى ويخرجه ليقتله، فلمّا دخل عليه أخرج الله عيسى من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فظنّوه هو فصلبوه وقتلوه. ٢) وكّلوا بعيسى رجلاً يحرسه وصعد عيسى في الجبل ورُفع إلى السماء، وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى.٣) إنّ اليهود لمـّا همّوا بأخذ عيسى وكان معه عشرة من أصحابه، فقال لهم: مَن يشتري الجنّة بان يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم (بطرس): أنا. فألقى الله شبه عيسى عليه فأُخرج وقُتل، ورفع الله عيسى. ٤) كان رجل (يهوذا الإسخريوطيّ) يدّعي أنّه من أصحاب عيسى، وكان منافقًا فذهب إلى اليهود ودلّهم عليه، فلمّا دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله شبهه عليه فقُتل وصُلب. ويعترف الرازي بأنّ هذه الاحتمالات الأربعة “متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور”.
لم يجمع التراث الإسلاميّ على تحديد هويّة الشخص الذي، وفق زعمهم، صُلب مكان المسيح راضيًا أو مكرهًا. وهذا يجعل روايتهم ضعيفة، بل مليئة بالخرافات والأخبار غير المعقولة. غير أنّ ما يقوله القرآن والتـراث الإسـلامـيّ عـن صلـب المسيـح يجـد جـذوره في الهرطقات والبدع التي سبقت ظهور الإسلام. ومن المعروف تاريخيًّا أنّ الجزيرة العربيّة قد احتضنت مختلف البدع والهرطقات الغنوصيّة والمسيحيّة المتهوّدة على أنواعها. هكذا، انتقلت الآراء الهرطوقيّة المشوّهة إلى القرآن والحديث والتراث الإسلاميّ.
من أهمّ هذه البدع البدعة الدوكاتيّة المعروفة بـ”المشبّهة”، التي ظهرت في القرن الأوّل للمسيحيّة، كانت تعتقد أنّ المسيح قد تألّم ظاهريًّا فقط. ويحارب القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ في بداية القرن الثاني هذه البدعة، فيؤكّد على حقيقة تجسّد ابن الله وحقيقة موته على الصليب وقيامته. كذلك حارب القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+٢٠٢)، في كتابه “ضدّ الهرطقات”، بدعة باسيليدس الذي كان يقول إنّ المسيح لم يُصلب، بل سمعان القيروانيّ الذي حمل صليبه (متّى ٢٧: ٢٢) هو الذي صُلب مكانه. يقول باسيليدس: “وسمعان هو الذي صُلب جهلاً وخطأ، بعد أن تغيّرت هيأته فصار شبيهًا بيسوع، بينما تحوّل يسوع إلى هيئة سمعان”. وثمّة كتاب منحول اسمه “أعمال يوحنّا” (نهاية القرن الثاني) ينسب إلى يسوع قوله: “لست ذاك الذي عُلق على الصليب”.
إذا كان التراث الإسلاميّ يرفض واقعة صلب المسيح، فهو لا يتفّق على رأي فيما يتعلّق بمصير المسيح. فبناء على الآية القرآنيّة: “إذ قال الله يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الذين كفروا” (سورة آل عمران ٥٥)، ثمّة روايات تقول بأنّ المسيح قد توفّي وفاةً طبيعيّة ثلاث ساعات ثمّ رُفع، وبعضها الآخر يقول إنّه توفّي سبع ساعات ثمّ أحياه الله ورفعه إليه… وهناك مَن ينفي نفيًا قاطعًا موت المسيح قائلاً إنّ المقصود بـ”متوفّيك”: “أجعلك كالمتوفّى لأنّه رُفع إلى
السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفّى”. ويميل الرازي إلى القول بانّ المسيح حيّ في السماء، وإنّه “سينزل ويقتل الدجّال ثمّ إنّه تعالى يتوفّاه بعد ذلك”.
اختلاف الأحاديث والتفسيرات الإسلاميّة في شأن تعيين الشخص الذي صُلب، وفق زعمهم، مكان المسيح، وفي شأن وفاته أو عدم وفاته قبل رفعه إلى السماء… تؤكّد لنا الالتباس الذي وقع فيه القرآن حين تبنّى، عبر رفضه لحادثة الصلب، إحدى الهرطقات المسيحـيـّة القـديـمـة. ونحـن، المسيـحـيّين، “حاشا لنا أن نفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح” الذي به أتى الخلاص والفرح إلى العالم.