قال أبونا القدّيس إسحق السريانيّ في كتاب “نسكيّات”: “لا تَدْعُ الله عادلاً، لأنّ عدالته ليست ظاهرةً في أعمالك. إنّ داود قد دعاه عادلاً ومستقيمًا. لكنّ ابن الله أظهر أنّه، بالأحرى، صالح ووديع. وقال: “إنّه يُنعم على الكفرة والأشرار” (لـوقا 6: 35). وكيف تدعـوه عـادلاً إذا كنتَ قد قرأتَ ما قاله عن أجرة العمّال: “يا صديقي، أنا ما ظلمتك. خذْ حقّك، وانصرف. فهذا، الذي جاء في الآخِر، أريد أن أعطيه مثلك. ألا يجوز لي أن أتصرّف بمالي كيفما أريد؟ أم أنت حسود، لأنّي أنا كريم؟” (متّى 20: 13- 15)؟ وكيف تدعوه عادلاً، وقد قرأت فصل “الابن الشاطر” الذي بذّر الغنى على الفجور، ثمّ، عند ندمه، أسرع أبوه إليه، وعانقه، وسلّطه على كلّ شيء؟… أين هي عدالة الله؟ أهي في أنّ المسيح قد مات من أجلنا ونحن خطأة؟ فما دام رحيمًا إلى هذا الحدّ هنا (في هذه الحياة)، فلنؤمن بأنّه لن يتغيّر البتّة” (المقالة الستّون).
تظهر هذه السطور أنّ واضعها مأخوذ، كلّيًّا، بصلاح الله ووداعته ورحمته. وتعطينا خاتمتها أن نطلّ على توقه العامّ إلى أن يبقى الله على رحمته في يوم الدينونة. فمن المعلوم، عمومًا، أنّ القدّيس إسحق تشوّف إلى أن يخلص الكون كلّه في اليوم الأخير، أبرارًا وخطأة، ملائكة قدّيسين أو ساقطين… هذا، وإن لم تتبنَّ الكنيسة حرفيّته في عقيدتها، لا يغطّي إيماننا بأنّ أحدًا لا يخلص بسوى رحمة الله.
ليس غريبًا أن يكشف آباء الكنيسة أنّ الله لا يعاملنا وفق ما يعلم أنّنا نستحقّه. وهذا، الذي يبيّنه السريانيّ هنا باستناده إلى كتب العهد الجديد، لا يلغي أنّ الله قد وعدنا بيوم “سيجلس فيه على عرش مجده”، ليديننا واحدًا واحدًا. فبانتظار ذلك اليوم، يحلو لقدّيسنا أن (أو يحلو لنا أن نراه) يردّد أنّ الله قرّر أن يلزم نفسه بالرحمة، أي أن يكشف أن ليس له معنا من شأن سوى أن يدلّنا على نفسه بأن يكون كريمًا حتّى النهاية (يُنعم على الكفرة والأشرار)، وبأن يصادقنا (يا صديقي)، وبأن يبقى أبانا الذي ينتظر أن نعود إليه (مثل الابن الشاطر)، والذي يمحو آثامنا بدم مسيحه (الذي مات من أجلنا ونحن خطأة).
هل ينكر إسحق على الله أنّه عادل؟ إن أخذنا العدل بمنطقٍ حقوقيّ، فبالتأكيد يفعل. لكن، ما علينا ترجيحه أنّه، بما قاله، أراد أن ينكر على أيٍّ ممَّن يتبعون الله أنّهم لله إن أهملوا التمثّل بصفاته!
لا أبتـغـي، فـيـمـا أعـلـِّق عـلى هذا القـول، أن أجترئ في العبارات. وهل أفعل إن قلت إنّ مشكلة الله معنا أنّنا كثيرًا ما نتكلّم عنه بما يرضينا، ولا سيّما إن كنّا نخاطب، باسمه، واحدًا أو مجموعة. وترانا، عمومًا، نرتاح إلى أن نصوّره جلاّدًا يحمل سوطًا بيده، أو شرطيًّا همّه كلّه أن ينظّم مخالفات بحقّ الناس، أو جبّارًا يتابعنا بعصاه من سمائه. من أين نأتي بأفكارنا؟ من تصوّراتنا، من استكباراتنا، من عقدنا، من انزعاجنا أن يكون الآخرون محبوبين، من تربية مغلوطة تلقّيناها؟ ربّما هذه كلّها أجوبة تصحّ. أين الله إله الصلاح والوداعة المحبّة والرأفة والرحمة؟ ومتى سنعلم أنّ إخافة الناس به من الصعب أن تردّهم إليه؟!
هذا الهوس ضربه واضع النسكيّات. فما أخذناه منه هنا، يبيّن أنّه، عندما أراد أن يتكلّم على صفات الله، لم يأتِ من بنات أفكاره، بل استند إلى الكتب المقدّسة التي الله فيها عرّف بنفسه.
ما يزيد من ترجّحي أنّ السريانيّ كان يردّ على قومٍ يشبهوننا، قوله الذي افتتح فيه سطوره، أي: “لا تَدعُ الله عادلاً، لأنّ عدالته ليست ظاهرةً في أعمالك”. وهذا يدلّ على أنّ مَن يعتبر أنّه قادر على أن يخاطب الله، وتاليًا أن يُكلّم سواه عنه، إنّما عليه، أوّلاً، أن يبدي اقتناعًا راسخًا بأنّ مشيئة الله أن توافق أعمالنا ما كشفته كلمته. إذ لا يعني شيئًا لله أن نستقبح الآخرين على ما نحسبه خطأً في سلوكهم، أو ننصفهم على برّ نراه يعبق بهم، بل أن تُرى فينا كلمة الله! أنت ترغب في أن تتغنّى بصفات الله الخلاصيّة، يقول إسحق، أنت تحبّ أن تشهد له في الأرض، فاعلم أنّ الله، قَبْلَ أن تفعل أو فيما تفعل أو إذا فعلت، ينتظر أن توافق حياتك ما كشفته كلمته، أي أن تقتدي به صالحًا ووديعًا ورحيمًا. فأنى لمخاطبة أو شهادة أن ترضي إلهًا حيًّا يعلم كلّ شيء إن لم تكن إعلانًا صارخًا عن أنّ حياتنا كلّها له، له وحده؟
لا يليق بنا أن نعتقد أنّ القدّيس إسحق أراد، في قوله، أنّ الله يودّ البرّ والإثم في آن، أو أنّ الأسود والأبيض صنْوان عنده. فما قاله، على أنّه أبان فيه أنّ الله منحاز إلى الرحمة كلّيًّا، إلاّ أنّه لا يخفي أنّ الله يريدنا أن نرحم أنفسنا بأن نغدو نحن أنفسُنا كلمةً منه. “أيّ صلة بين البـرّ والإثـم؟ وأيّ اتّحـاد بين النور والظلمة” (2 كورنثوس 6: 14). ولا أتقصّد أن
أزرع رعبًا في قلب أحد إن قلت معلّقًا إنّ أكثر ما يخيف، في تراثنا، أنّه، في كلامه على الآثام، وحّد بينها وبين مرتكبيها (1كورنثوس 6: 15- 18). وفي هذه الوحدة، لم يميّز (التراث) بين خطيئة وأخرى، بل اعتبر الخطيئة، أيّ خطيئة، هي الكلّ (كولوسّي 3: 8). وإذًا، ما أراده قدّيسنا أن نهرب من الاستهانة بالخطايا. فالله، الذي نعتقد أنّه يحبّنا ويرحمنا، يريدنا أن نعتقد أنّ محبّته ورحمته، اللتان رجا السريانيّ أن يبقى عليهما أبدًا، إنّما هما أسلوبه الفذّ في اجتذابنا إلى محبّة البرّ.
إنّها صفات الله التي تنتظر أن تغدو صفات الذين رحمهم بمحبّته العظمى. فما كشفته الكتب عن الله وأَعَمَلَ الآباء فيه شرحًا، كان هدفه كلّه أن تحقّق كلمة الله: “قلتُ إنّكم آلهة” (يوحنّا 10: 34).
الله، الغنيّ في صفاته المباركة، يبدو غناه فينا إن ثبتنا في طاعة كلمته اليوم وغدًا.