كان القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+407) الأنطاكيّ المنشأ وبطريرك القسطنطينيّة، الذي تُحيي الكنيسة ذكرى نقل رفاته اليوم السابع والعشرين من شهر كانون الثاني، على الرغم من كونه هزيل الجسم وقصير القامة، ذا عزيمة قويّة ممتلئة بنعمة الله ومحبّته، وكان سيّد الكلمة وخير مَن اعتلى منبرًا للوعظ. اعتبره العلماء أعظم خطيب كنسيّ، حيث اجتمع في عظاته عمق المعنى وروعة الأسلوب وبلاغة التعبير. ولقّبه أهل زمانه بالذهبيّ الفم، لذلك تمدحه الكنيسة عبر وصفه بـ”البوق الذهبيّ”، “العقل السماويّ”، “عُمق الحكمة”، “الكوكب الذي لا يغرب المنير بضياء تعاليمه كلّ ما تحت الشمس”، “نموذج المؤمنين المُضاهي الشهداء والمُعادل الرسل القدّيسين في أحوالهم”…
يروي الرواة عن ليبانيوس الوثنيّ، معلّم الذهبيّ الفم، أنّه قال: “لولا عقيدة يوحنّا المسيحيّة لكان خير مَن يَخْلفني على منابر الخطابة في أنطاكية”. وعظاته التي كانت، في أحيان كثيرة، تدوم ساعتين، كانت جذّابة تأسر السامعين لما تحتويه من تعاليم نافعة لخلاصهم. وقد خلّف الذهبيّ الفم الكثير من المقالات اللاهوتيّة والخطب والعظات والرسائل، حتّى عُدّ من أغزر الآباء الكنسيّين تأليفًا في شؤون الرعاية والمجتمع والسياسة، حيث واجه أباطرة زمانه ولم يرضخ لأهوائهم وظُلمهم. فيوحنا تناول في كتاباته مواضيع شتّى استمدّها من واقع الحياة اليوميّة، ويُعالجها من منطلق تعليم الكتاب المقدّس والعقيدة المسيحيّة المستقيمة، مستشهدًا بآيات وأقوال للسيّد المسيح والرسول بولس.
عظات القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم كانت تهدف إلى التوسّع في شرح أسفار الكتاب المقدّس، وإظهار مقاصدها في الحياة اليوميّة وممارسة التوبة. وقد تلا معظمها على مسامع المؤمنين إبّان خدمته في أنطاكية. عكف يوحنّا على استخراج المكنونات الروحيّة للنصّ الكتابيّ، ومن ثمّ يوجّه نصائح خلقيّة ومسلكيّة تصلُح لتحسين الحياة اليوميّة للمؤمنين بما يتوافق مع مقتضيات تعاليم الربّ. وفي ذلك يقول قولته الشهيرة: “لم تُعطَ الكتابات المقدّسة لكي نبقيها في الكتب، بل لكي نحفرها، بالقراءة والتأمّل، في قلوبنا. الناموس يجب أن يُكتب على ألواح من لحم، على قلوبنا”.
كان يوحنّا يُشجّع المؤمنين على عيش الإنجيل وممارسة تعاليمه في حياتهم اليوميّة، فيقول: “ليس الإنجيل بنصّ حَرْفيّ بل هو كلمة حيّة. معناه لا يكمن في حرفيّته المباشرة بل في لُبّه. لا يُنقل بواسطة تعليم نظريّ بل بواسطة الوعظ الذي يوزّع الكلمة على المؤمنين. لا منفعة للكتاب إذا فُصل عن المسيح أو عمّا قاله الآباء في المسيح يسوع وعمّا يقوله الروح القدس. الكتاب المقدّس خارج الكنيسة في خطر أن يتحوّل من كلمة الله في المسيح يسوع إلى كلمة بشريّة صرفة”. ويذهب الذهبيّ الفم في حديثه عن الكتاب وعلاقته بالكنيسة إلى القول: “إنّ مَن يطلب فهم الكتاب المقدّس في شركة الأسرار (وبخاصّة في القدّاس الإلهيّ) يختبر عزاء اللقاء بالسيّد في النصّ الإنجيليّ ويُحمل عبر الكلمة المكتـوبـة إلى حيـث يُجـالس الكلمة الذي كـان من البـدء”. ويختم قائلاً: “لا فرق بين الكلمة المعلنة في الإنجيل والكلمة المتجسّد في الكأس المقدّسة وسط الكنيسة المجتمعة”.
يعتبر القدّيس الذهبيّ الفم أنّ الله خاطَبَ الناس بالكلمة، لم يُرسل إليهم كتابًا، بل بشرًا، أنبياء ثمّ ابنه الوحيد. ولكنّ الكتب دُونت لتذكيرنا فقط بالكلمة الإلهيّة، فيقول: “الله لم يتّصل بإبراهيم وذُرّيّته وبأيّوب وموسى بواسطة الكتابة، بل خاطبهم بذاته مباشرةً إذ وجد فيهم روحًا نقيّة. فلمّا اندفع الشعب العبريّ إلى هاوية الشرّ كانت الكتابة والألواح أمرًا لا غنًى عنه وسببًا للذكرى. أمّا الرسل فلم يدفع الله لهم شيئًا مكتوبًا بل وعدهم بأن يُرسل إليهم نعمة روحه القدّوس، فقال لهم: فإذا جاء ذاك يُذكّركم… لكن بما أنّ البشر حادوا عن معتقداتهم وفسدت أخلاقهم وضلّوا السبيلَ السويّ لجأ الله مرّة ثانية إلى تذكيرهم بالكتابة… أفلا يكون من الخطأ الفاضح ألاّ تريدوا أن تستفيدوا من تلك المعونة وأن تنبذوا الكتب الإلهيّة كشيء تافه وباطل وأن تجلبوا عليكم العقوبة الشديدة”.
يتابع الذهبيّ الفم كلامه قائلاً: “كان الأَولى أن نكون بغنًى عن الكلمة المكتوبة وأن تكون حياتُنا في حالة من النقاء بحيث إنّ نعمة الروح القدس تقوم مقام الكتب. فكما أنّ الكتب مكتوبة بالمداد هكذا كان يجب أن تكون قلوبُنا مكتوبة بنور الروح القدس”. لذلك، ينصح قدّيسُنا الذهبيّ الفم المؤمنين بالمثابرة على مطالعة الكتاب المقدّس، ففي ذلك منافع كثيرة، إذ إنّها “تطرد اليأس، وتحفظ الوداعة، وتُغني الفقير أكثر من الغنيّ، وتُبعد الأغنياء عن الخطأ، وتجعل الخاطئ صدّيقًا، وتقود الصدّيق إلى المأوى الحصين، وتستأصل الشرّ وتزرع الخير حيث لا أثر له، وتطرد الحقد والضغينة، وتردّ النفس إلى
الفضيلة وتُثبّتها وتُديمُها”. وفي السياق عينه يقول: “فلنقرأ الكتاب المقدّس جيّدًا لا في أثناء الصلاة عند وجودنا في الكنيسة فقط، بل عند الرجوع إلى البيت لنكون أَمينين على أنفسنا”.