احتدم النقاش بين الربّ يسوع من جهة والكتبة والفريسيّين والناموسيّين من جهة أخرى، فانتقدهم على أدائهم، ووبّخهم على تقصيرهم (لوقا ١١: ٣٧-٥٢)، عندها ابتدأوا «يحنقون جدًّا ويصادرونه على أمور كثيرة، وهم يراقبونه طالبين أن يصطادوا شيئًا من فمه لكي يشتكوا عليه» (لوقا ١١: ٥٣-٥٤). على الأثر حذّر تلاميذه من رياء الفرّيسيّين، وشجّعهم على المجاهرة بالإيمان، غير عابئين بالمخاطر، واثقين بالله، متّكلين على فعل الروح القدس (لوقا ١٢: ١-١٢). فجأة، والكلام في ذروته، انبرى واحد من الجمع، وطلب إلى يسوع أمرًا لا يمتّ إلى الحديث بأيّة صلة: «يا معلّم قلْ لأخي أن يقاسمني الميراث» (لوقا ١٢: ١٣). يا لغرابة هذا المشهد وتأثير وقعه على الربّ يسوع إذ جاوبه بشيء من الجفاء قائلًا: «يا إنسان! من أقامني عليكما قاضيًّا أو مقسّمًا؟» (لوقا ١٢: ١٤). على أثر ذلك، ورغم انقطاع الموضوع الرئيس، توجّه الربّ إلى الجموع وقال «انظروا وتحفّظوا من الطمع، فإنّه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله» (لوقا ١٢: ١٥)، ثمّ ضرب لهم هذا المثل مظهرًا الخطر الناجم من الاتّكال على المال عوضًا من الاتّكال على الله.
«إنسانٌ غنيٌّ أخصبت كورته». كانت المواسم الزراعية في زمن يسوع متفاوتة وعرضة لأخطار مختلفة بسبب المناخ والجراد والأوبئة. يُظهر الربّ أنّ الغنيّ، بعد أن عبرت كلّ معالم الأخطار، استنتج أنّه قادم على موسم مميّز ووافر جدًّا، وعليه أن يتصرّف بسرعة. «ففكّر في نفسه قائلاً: ماذا أصنع؟». يظهر تفكيره للوهلة الأولى إيجابيًّا وعمليًّا وحكيمًا، يستغني عن أهرائه السابقة ويبني أضخم منها ليخزّن فيها المحصول. لكن سرعان ما تتّضح نيّاته الضيّقة وبصيرته المحدودة التي دفعته إلى اتّخاذ هذا القرار. اعتقد أنّ هذه الغلال كافية لتجعله يطمئنّ ويضمن لنفسه حياة مديدة هانئة سعيدة، فلماذا يفوّت الفرصة ويعرّض نفسه مجدّدًّا لتقلّبات المواسم؟ يهدم الأهراء العاديّة التي تُخزّن فيها مؤونة عام كامل، ويبني أهراء ضخمة كافية لتستوعب المحصول الذي يكفي لسنين كثيرة تعادل على الأرجح عمرًا كاملاً. ظنّ المسكين أنّه بتخزين الغلال يطمئن على حياته، ويكون في مأمن من تقلّبات الظروف وأخطارها، ويصير محصّنًا ثابتًا لا يتزعزع أمام المصاعب ويغرف من الحياة قدر ما يشتهي مستريحًا في أكل وشرب ورفاهية.
فات الغنيّ أنّ ضمانة الحياة ليست بالمأكل والمشرب والرفاهية. سلّط الربّ يسوع الضوء على الضمانة الفعليّة للحياة عندما صمد أمام تجربة الشيطان في البرّيّة. فبعد أن صام أربعين يومًا وليلة، وافاه الشيطان قائلًا «إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا، فأجابه الربّ قائلاً: مكتوبٌ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة من الله» (لوقا ٤: ٤). كما فاته أنّ الله هو منبع الحياة ومتّكلها، وأنّ كلمة الله المحيية هي غذاء الحياة الحقّ. غاب عن وجدانه التحذير الوارد في الشريعة ومفاده: «متى أكلت وشبعت تبارك الربّ إلهك لأجل الأرض الجيّدة التي أعطاك. احترز من أن تنسى الربّ الهك ولا تحفظ وصاياه وأحكامه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم. لئلّا إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتًا جيّدة وسكنت وكثّرت بقرك وغنمك، وكثّرت لك الفضة والذهب، وكثر كلّ ما لك يرتفع قلبك وتنسى الربّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبوديّة» (تثنية ٨: ١٠-١٤). لم يكلّف الغنيّ نفسه أن يشكر الله ويباركه، بل رغم تحذير الشريعة نسي الله بالكامل ولم يأتِ على ذكره، جلّ ما خطط له
ينحصر بنفسه، إذ بكلامه يعكس أنانيّة عميقة. لم يكن لأخيه الإنسان مكان في مخطّطاته أيضًا، لذلك أراد أن يحتفظ بكلّ شيء لنفسه، ولم يطرأ على ذهنه أن يشارك ويوزّع ويتصدّق تماشيًّا مع ما توصي به الشريعة في الأسفار المقدّسة.
«هذه التي أعددتها لمن تكون؟» يوحي كلام الربّ يسوع، في خلاصة المثل، أنّ الغنيّ أنجز مخطّطاته، بنى أهراءه وخزّن محصوله، لكنّ عينيه أمستا على ظلمة لم يعقبها نور، وفقد حياته في الوقت الذي اعتقد أنّه وجدها، فضاع كلّ تعبه في هذا الاتّجاه سدى. عالج القدّيس يعقوب أخو الربّ موضوعًا مشابهًا في رسالته حيث يقول: «هلمّ الآن أيّها القائلون نذهب اليوم أو غدًا إلى هذه المدينة أو تلك، وهناك نصرف سنة واحدة ونتاجر ونربح. أنتم الذين لا تعرفون أمر الغدّ لأنّه ما هي حياتكم. إنّها بخار يظهر قليلًا ثمّ يضمحلّ عوضًا من أن تقولوا إن شاء الربّ وعشنا نفعل هذا او ذاك» (يعقوب ٤: ١٣-١٥). «إن شاء الربّ وعشنا» كم هو جميل هذا التعبير، لكن ما سمعه الغنيّ يخلو من كلّ جمال: «يا جاهل، في هذه الليلة تُطلب نفسك منك».
لا يتعمّد الله سلب الإنسان حياته، على العكس «حيٌّ أنا يقول السيّد الربّ: إنّي لا أُسرّ بموت الشرّير، بل بأن يرجع عن طريقه ويحيا» (حزقيال ٣٣: ١١). أظهر الربّ يسوع بهذ التصريح القاسي جسامة انحراف الإنسان وضلاله. عمل الغنيّ جاهدًا لتأمين استمرار حياته ولكن في الاتّجاه المعاكس. الله هو الحياة، وكلّ بحث عن الحياة بمعزل عن الله سرابٌ ووهم يقود إلى الموت والهلاك الذي هو مصير «كلّ من يدّخر لنفسه ولا يستغني بالله».
إنّ الأمثولة من وراء مصير الغنيّ تدفع المؤمن إلى الثقة بالله في الظروف كافّة وإلى التحرّر من هاجـس الطعام واللباس والإرث والمال. الاهتمام المفرط بكلّ هذا لا يجدي نفعًا إذ «لا يقدر من يهتمّ أن يزيد على قامته ذراعًا واحدة» (لوقا ١٢: ٢٥) مهما عظمت جهوده. ما من متّكل سوى الله، هذا ما كان يعلّمه يسوع قبل أن يقاطعه واحدٌ من الجمع. لذلـك عاد الربّ يسوع إلى سياق تعليمه، وقال على أثر المثل: «لا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا، فإنّ هذه كلّها تطلبها أمم العالم، وأمّا أنتم فأبوكم يعلم أنّكم تحتاجون إلى هذه، بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلّها تُزاد لكم» (لوقا ١٢: ٢٩-٣١). مَن اهتمّ بطلب الربّ لا يُعدم شيئًا، بل يتعالى عن حاجاته ويكون غنيًّا في فقره وفقيرًا لوجه الله في بذل غناه.