من أكثر التعابير التي علقت في أذهان المؤمنين هي التي خطّها القدّيس أثناسيوس الكبير في كتابه «في تجسّد الكلمة» «De incarnatione verbi»، وفحواها أنّ ابن الله صار إنسانًا لنتألّه أو لنصبح آلهة. قدّيسنا الذي جابه في القرن الرابع أخطر بدعة عصفت بالكنيسة، والتي تعلّم بمخلوقيّة الابن، علّم أيضًا بأنّ كلمة الله هو إله أزليّ مثله مثل الآب، وأنّه لم يكن وقت لم يكن فيه الابن موجودًا.
لم يكن تشديد القدّيس أثناسيوس على ألوهيّة الابن، كما يعتقد الكثير من علماء اللاهوت، من خلفيّة خريستولوجيّة بل من منطلق سوتريولوجيّ. التألّه عند القدّيس أثناسيوس هو تعليمٌ أساس، وهو يجعل منه الهدف الأساس للعمل الخلاصيّ. وما ذكره عن هذا الموضوع في مصنّفٍ آخر له، إلاّ ليؤكّد على جوهريّة هذا التعليم عنده. فهو يعلّمنا في مؤلّفه De synodis، الذي أنجزه السنة ٣٦١، أنّه لو أنّ الكلمة نفسه كان إلهًا بالمشاركة، وليس من جوهر الآب، لما كان (قادرًا) على التأليه (تأليه البشر) لكونه هو نفسه مؤلَّهًا. إذ إنّه من غير الممكن أن يشارك غيره في ما حصل هو عليه بالمشاركة De synodis IV, 51.
بمعنى آخر، لولا أنّ المسيح هو ذو جوهرٍ واحد مع الآب، وتاليًا إلهٌ مثل أبيه، لما كان المسيح قادرًا على تأليه البشر. فمن تألّه بالنعمة لا يستطيع أن يهب الآخرين نعمة التألّه. ولكن بما أنّ المسيح هو إله حقّ وحاملٌ في ذاته ملء اللاهوت (كولوسي ٢: ٩)، لذا هو قادر على تأليه البشر. هكذا كان يعلّم القدّيس أثناسيوس الكبير.
بما أنّ أثناسيوس يشير إلى موضوع التألّه في معرض مجابهته الآريوسيّين، فهذا يدفعنا إلى الاستنتاج أنّ فكرة التألّه كهدف للتجسّد لم تكن بعيدة أيضًا عن فكر الآريوسيّين، الاختلاف كان على الـ«كيف».
هل كان هذا التعليم من «عنديّات» أثناسيوس، أم أنّه استند في تعليمه إلى من سبقه من الآباء؟ دارسو اللاهوت يعتبرون عبارة أثناسيوس «صار الكلمة (الإله) إنسانًا لنصبح آلهة»، هي صدى لعبارةٍ مشابهة وردت نحو ١٤٠ سنة قبله على لسان القدّيس إيريناوس أسقف ليون، الذي يذكر من كتابه ضدّ الهرطقات: «إنّ ربّنا يسوع المسيح… بمحبّته التي لا تقاس صار ما نحن، لكي يجعلنا مساوين لما هو عليه». وأيضًا «كلمة الله صار إنسانًا وشابه الإنسان لكي يصبح الإنسان كريمًا في عيني الله عبر هذه المشابهة… فلقد أظهر الصورة في كلّ حقيقتها وحقّق التشابه بطريقة ثابتة أن جعل الإنسان مشابهًا للآب غير المنظور بواسطة الكلمة الذي أصبح منظورًا». De haeresibus 5, 16.
دوافع كتابة إيريناوس مشابهة لدوافع القدّيس أثناسيوس أي ضدّ تعليم الهراطقة. إيريناوس أيضًا في معرض ردّه على الهرطقات، يجاهر علنًا بأنّ المسيح صار مثلنا ليجعلنا مثله. التضمين واضح عند إيريناوس: المسيح يصبح ما لم يكنه، أي يصبح إنسانًا، ليجعل من الإنسان ما ليس هو الآن، أي إلهًا. إذًا الله صار إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا.
أعمال إيريناوس تُعتبر أرثوذكسيّة في كلّ الكنائس، الشرقيّة والغربيّة، وهي ذات سلطة لأنّها جاءت مباشرة بعد فترة قصيرة من عصر الرسل. إذا أخذنا بالاعتبار أنّ إيريناوس كتب في فترة لم يكن قانون الكتاب المقدّس قد حُدّد وأنّ التقليد الشفهيّ ما زال ذا سلطان لقربه من زمن الرسل، فهذا يعني أنّ إيريناوس لم يكن ليجازف بطرح موضوع جديد على فكر الكنيسة – وهو في صدد دحض تعاليم الهراطقة- إلاّ إذا كان هذا الموضوع مألوفًا على الفكر الرسوليّ. تاليًا عبارته أنّ البشر يصبحون آلهة لم
تكن تعليمًا جديدًا، بل هي انعكاس للتعليم الرسوليّ. إذا كان مفهوم التألّه قد جاء مباشرةً من الرسل أو لا، فهذا سؤال غير مطروح للمعالجة هنا. يكفي أن نتذكّر قول الرسول بطرس في هذا السياق لنتأكّد أنّ هذا التعليم كان واضحًا عند الرسل «كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ.» (١بطرس١: ٤).
لم يكن إيريناوس وأثناسيوس وحيدين في تعليمهم أنّه بالعمل الخلاصيّ يصبح البشر آلهةً بالنعمة، بل العديد من آباء القرون الأولى شاركوهم في هذا التعليم. فالآباء الكبادوك، على سبيل المثال، الذين وضّحوا المصطلحات والتعاليم الثالوثيّة كانوا واعين مثل معاصرهم أثناسيوس لموضوع التألّه، وإن بتعابير مغايرة. فالقدّيس باسيليوس يذكر في كتابه «عن الروح القدس» أنّ التألّه هو عطيّة الروح القدس فهو يذكر: من الروح القدس تأتي معرفة المستقبلات، وتُفهم الأسرار، وتُستعلن الخفايا، وتُوزّع العطايا الصالحة، المواطنيّة السماويّة، أي نصير آلهة. عبارة القدّيس باسيليوس الأخيرة لا تعني أنّنا نصير مثل الله بل بكلّ وضوح نصير الله (إلهًا).
القدّيس غريغوريوس النيصصيّ علّم أيضًا عن تألّه الإنسان عبر عمل الله الخلاصيّ. حيث يذكر في كتابه Oratio catechetica magna في المقطعين ٢٥ و٢٧ تعليمًا مشابهًا لتعليم أثناسيوس. في المقطع ٢٥ يقول: «لقد نفذ [الابن] إلى داخل طبيعتنا، لكي تستطيع طبيعتنا نفسها عبر نفاذ الألوهة [فيها] أن تصبح إلهية». يتابع القدّيس غريغوريوس في المقطع ٢٧: «الله الذي ظهر، نفذ هو نفسه إلى إنسانيّتنا الهشّة، فعبر هذه المشاركة مع الألوهة يصبح الجنس البشريّ في الوقت عينه متألّهًا».
يذكر القدّيس غريغوريوس النزينزيّ، صديق القّديس باسيليوس الكبير، أيضًا موضوع التألّه في كتاباته. ففي سياق حديثه عن ألوهيّة الأقنوم الثالث، الروح القدس، يقول: «إذا كان [الروح القدس] على مرتبتي ذاتها، فكيف بإمكانه إذًا أن يجعل منّي إلهًا، أو أن يُتّحدني مع الألوهة؟ ويضيف أيضًا: «إذا كان الروح القدس لا يُعبد، فكيف بإمكانه إذًا أن يؤلّهني عبر المعموديّة.
خلاصة القول إنّ التعليم المسيحيّ عن التألّه لم يكن دخيلاً على فكر الكنيسة، بل هو قديمٌ قدمها. وخبرة رهبان الكنيسة ومؤمنيها بيّنت أنّ فهمهم للتألّه لم يكن كمشاركةٍ للنعم الإلهيّة، بل إنّ تجلبب المسيحيّ بالله هو تغيير أنطولوجيّ. من هذا المنظار تعاملت الكنيسة مع موضوع عمل الربّ الخلاصيّ. هذه هي فرادة الكنيسة الأرثوذكسيّة في نظرتها إلى الإنسان. فعبر أسمى حالات الصلاة يدخل الإنسان في سرّ معرفة الله. والتألّه هو أبعد بكثير من مجرّد استعادة صورة الخلق التي سقطت مع آدم، وذلك بأنّ ابن الله اتّحد بتجسّد طبيعتَه الإلهيّة بالطبيعة البشريّة، ومكّنها بذلك من الالتصاق أكثر بالله. بهذا فهمت الكنيسة موضوع التألّه على أنّه مرتبطٌ جوهريًّا بتجسّد الذي جاء من أجل أن يهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكي نصير بها شركاء الطبيعة الإلهيّة، كما قرأنا عند الرسول بطرس.