كيف نفهم الصليب أو كيف نترجمه في حياتنا؟ عن هذا أجاب الربّ قائلاً: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني». وكأنّ السيّد أراد أن يقول إنّ لا طريق لنا لمعرفته ولرؤيته إلاّ الطريق التي اختارها هو ليكشف ذاته للعالم، أي الصليب والقبر والقيامة. الصليب كان دربه إلى النصر، وكان دربه إلى فتح التاريخ، وكان دربه إلى قلوبنا. ونحن لا يمكننا أن نصل إلى شيء من الحقيقة، وإلى شيء من النور، وإلى شيء من الفرح، وإلى شيء من السلام، وإلى الوجود، لا يمكننا ذلك ما لم نمرّ بالصليب. ليس لنا خيار، فقد اختير الصليب لنا ورُمينا عليه منذ أن عرفنا يسوع. مَن انضمّ إلى المسيح ينضمّ إلى خشبة، ينضمّ إلى مسامير، وتُغرس المسامير في لحمه أي يوضع التعب في روحه وتدخل الآلام إليه.
لكنّ هذه الطريق لنا أن نختارها ولنا ألاّ نختارها. فإذا أردنا المسيح فهذه طريقه. ولكن إن أردنا أن نستريح، ألاّ نتعب، إذا أردنا أن تنغمس أجسادنا باللذّات وأن نتحكّم في الناس فلا صليب لنا ولا مسيح لنا.
حذّرنا المسيح من هذه التجربة الفاتكة: أن نمزج بين شيء من العالم وشيء منه هو، أن نرضى بعضًا من خطايا وبعضًا من فضائل. هذا غير ممكن لا يمكن أن نقبل المسيح والعالم. لا يُجمَع بين الدين والدنيا. لا يُجمع بين أن نكون معروفين ومحبوبين من الأخيار ومن الأشرار، من الحكّام ومن المحكومين وأن نكون للمسيح. لا يمكن أن نأكل أموال الناس أو بعضًا منها وأن نكون للمسيح. لا يمكن أن نتعاطى ملذّات غير شرعيّة وأن نكون للمسيح. نحن مصلوبون، نحن مُهانون، نحن مقتولون إن أردنا المسيح. هذا هو كتابنا. الدرب شاقّة مزروعة بالأشواك وقد انتهت الدرب في خشبة رُمي عليها ابن الله مصلوبًا، مسحوقًا، مكسّرًا حتّى الموت وحتّى الإذلال.
ماذا بعد هذا؟ الذين قُتلوا بعد سيّدهم طيلة ثلاثماية سنة، يومًا بعد يوم وسُجنوا وشُرّدوا وابتلعتهم السباع، الذين ذُبحوا، هؤلاء صاروا ملوك التاريخ وأسيادًا على قلوبنا. الشهداء انتصروا ونيرون وزملاء نيرون نُسوا في غياهب الزمان. القويّ ليس من يدلّ عليه الناس، ليس المتكبّر والمجرم والناهب الأموال، هذا ليس بشيء. ولكنّ الوديع، اللطيف، المتواضع، المحبّ، المتسالم، الذي يُسرَق ولا يسرق، الذي يُشتَم ولا يدافع عن نفسه، هذا سيّدنا جميعًا.
يقول لنا السيّد: «إذا أردتم أن تتبعوني فاكفروا بأنفسكم واتبعوني». السؤال: ماذا يحلّ بي إذا أنا تخلّيت عن شهواتي ورغباتي وعن كلّ نزوة من نزواتي، إن أنا سحقت كلّ أنانية فيّ، إن جعلت نفسي عبدًا للمسيح وموطئًا لأقدام الناس، ماذا يحلّ بي؟ أينساني الناس؟ طبعًا. ولكن ماذا يبقى إن صرت نسيًّا منسيًّا مسحوقًا في أذهانهم؟ الجواب أعطاه الرسول بولس في رسالة اليوم: نحن أحياء بالمسيح يسوع الذي أحبّنا وأسلم نفسه عنّا.
إن أنا أفرغت نفسي وذاتي من كلّ شبه شرّ فيّ، فالمسيح حيّ فيّ. إذا رمينا الإنسان الفاسد فينا وطرحناه خارجًا عن أنفسنا فإنّنا نكون قد خضنا في تجارة عظيمة، نكون قد بعنا أنفسنا واشترينا المسيح، والتجارة رابحة، لا أربح منها. أن يأتينا من هو أجمل بكثير من الذي رميناه، ويأتينا من هو أذكى بكثير من الذكاء الكاذب الذي لنا، وأتينا من هو أغنى بكثر من الغنى الذي تخلّصنا منه، يأتينا المسيح، يأتينا السيّد، الجيّد وحده والفطن وحده والغنيّ وحده ويخلقنا في كلّ خير وكلّ رحمة وكلّ قوة.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: غلاطية ٢: ١٦-٢٠
يا إخوة، إذ نعلم أنّ الإنسان لا يُبرَّر بأعمال الناموس بل إنّما بالإيمان بيسوع المسيح، آمنَّا نحن أيضا بيسوع المسيح لكي نُبرَّر بالإيمان بالمسيح لا بأعمال الناموس، إذ لا يُبرَّر بأعمال الناموس أحد من ذوي الجسد. فإن كنّا ونحن طالبون التبرير بالمسيح وُجدنا نحن أيضا خطأة، أفَيكون المسيح إذًا خادما للخطيئة؟ حاشى. فإنّي إنْ عُدتُ أَبني ما قد هدمتُ أَجعلُ نفسي متعدّيًا، لأنّي بالناموس مُتُّ للناموس لكي أَحيا لله. مع المسيح صُلبتُ فأَحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. وما لي من الحياة في الجسد أنا أحياه في إيمانِ ابنِ اللهِ الذي أَحبّني وبذل نفسه عنّي.
الإنجيل: مرقس ٨: ٣٤-٩: ١
قال الربّ: مَن أراد أن يتبعني فليكفُرْ بنفسه ويَحمل صليبه ويتبعني، لأنّ من أراد أن يُخلّص نفسه يُهلكها، ومن أَهلَكَ نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يُخلّصها. فإنّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه، أَم ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟ لأنّ من يستحيي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ يستحيي به ابنُ البشر متى أتى في مجد أبيه مع الملائكة القدّيسين. وقال لهم: الحقّ أقول لكم إنّ قومًا من القائمين ههنا لا يذوقون الموت حتّى يرَوا ملكوت الله قد أتى بقوّة.