«إن كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرًا. وإن كانت عينك شرّيرة فجسدك كلّه يكون مظلمًا». إن ترجمنا هذه الآية بلغة مفهومة لدينا اليوم لقلنا: إن كانت رؤيتك للأمور طيّبة منبثقة من بساطة المسيح فكيانك كلّه نيّر، وإن كانت رؤيتك للناس والأشياء مرتبكة منطلقة من شرّ في نفسك، فإنّك تضفي ظلامًا على الناس ولا تراهم إلاّ مظلمين فيُظلم كيانك أيضًا.
ينبغي أن تكون رؤية الأشياء بسيطة أي مباشرة، بحيث نلتصق بالحقيقة الراهنة. هل يعني ذلك أنّ السيّد يدعونا إلى السذاجة بحيث نكون كالأطفال؟ ينبغي أن نكون أطفالاً لجهة القلب لا أطفالاً لجهة الذهن. إذ يستطيع المرء أن يكون جبّارًا في عقله وبآن معًا كالطفل في بساطته وبراءته. يدعونا الإنجيل إلى أن نرى النور في الناس، فالناس كلّهم حملة نور.
الله صنعنا على صورته ومثاله ونحن مدعوّون إلى نفض الغبار الذي يغطّي الصورة، وإلى التبصّر في العنصر الإلهيّ الكامن في كلّ إنسان، حتّى إذا ما شاهدنا الجمال الكائن فيه استطعنا أن نوقظ الإله الذي فيه وأن نردّه إلى الإله الفادي الذي يحيا فينا.
ثمّ قال السيّد: لا تستطيعون أن تعبدوا ربّين الله والمال. الربوبيّة تجذب، نتعبّد لها لأنّنا نعرفها مصدر الحياة ومنها نستقي الوجود. ولكنّ الإنسان سرعان ما ينحت لنفسه آلهة أخرى. هذا كان منذ مطلع التاريخ. الإنسان يصنع لنفسه أصنامًا منحوتة يتعبّد لها فهو يتعبّد بالحقيقة لشهواته. تعبّد للجسد فأوجد إلهًا للجسد، أحبّ الحرب فأقام إلهًا للحرب. الوثنية شهوات تنبع فينا أنشأنا لها أصنامًا. ولهذا عندما أراد الإله الواحد أن يحطّم الأوثان شاء بالحقيقة أن نلغي الشهوات التي أوجدتها.
عندما ظهر الإله الواحد ساطعًا قويًّا بيسوع المسيح انكسرت الأصنام كلّها. تجلّى الله على الصليب وفي القيامة ولكن ألغيت بسبب ذلك شهوات الناس، فانبعثت في نفوسهم وأقاموا من أنفسهم تماثيل غير منظورة. ولعلم ربّنا بذلك وليقينه بأنّ تلاميذه أيضًا سوف يقيمون لأنفسهم صنمًا كبيرًا عجلاً ذهبيًّا غير محسوس حذّرهم بقوله: «لا تعبدوا ربّين الله والمال».
اختار السيّد المال من بين الشهوات كلّها لكونه أكبرها وأفتك منها جميعًا. اختار ربّنا المال لكي يحارب تعبّد الإنسان له. حبّ المال متأصّل في النفس لأنّه ملجأ نلوذ به. يقينا من الموت أو كذا نظنّ. الإنسان كان طيلة حياته وطيلة تاريخه يعيش في الخوف. يخشى الموت والمرض والعزلة لذلك يجعل لنفسه صناديق من المال تقيه العوز والمرض، أو تأتيه بالشفاء من مرض أو هكذا يحسب.
أمّا الربّ فهو الذي يقينا شرّ العوز وشرّ المرض وشرّ الموت إذ المؤمن صحيح بربّه، مكتف بربّه، قائم بربّه لا يموت. ولكنّ الإنسان لا يؤمن إيمانًا كاملا فتّاكًا بقيامة المخلّص، ولهذا يجعل لنفسه في الحياة زوايا يطمئنّ إليها ويتدفّأ في كنفها ويتربّع في نطاقها. أنشأ الإنسان في قلبه زاوية مظلمة للمال الوثن.
كيف نكافح الشهوة الآكلة؟ بالعطاء. قال الله، على لسان داود النبيّ: «بدّد أعطى المساكين فيدوم برّه إلى الأبد». «بدّد» أي لم يبقِ لنفسه شيئًا. هكذا نتمرّن على العطاء. عندما أحسُ المال في جيبي يلاصقني لأطمئنّ إليه يكون قد بدأ الصنم. آخذه إذًا وأدوسه، أكسّر الصنم منذ بداءته، أعطيه لمن يحتاج إليه.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: رومية ٥: ١-١٠
يا إخوة إذ قد بُرّرنا بالإيمان فلنا سلام مع الله بربّنا يسوع المسيح الذي به حصل أيضًا لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مُقيمون ومفتخرون في رجاء مجد الله. وليس هذا فقط بل أيضًا نفتخر بالشدائد عالمين أنّ الشدّة تنشئ الصبر، والصبر ينشئ الامتحان، والامتحان الرجاء، والرجاء لا يُخزي، لأنّ محبّة الله قد أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أُعطي لنا، لأنّ المسيح إذ كنّا بعد ضعفاء مات في الأوان عن المنافقين، ولا يكاد أحد يموت عن بارّ. فلعلّ أحدًا يُقدم على أن يموت عن صالح؟ أمّا الله فيدلّ على محبّته لنا بأنّه، إذ كنّا خطأة بعد، مات المسيح عنّا. فبالأحرى كثيرًا إذ قد بُرّرنا بدمه نخلص به من الغضب، لأنّا إذا كنّا قد صولحنا مع الله بموت ابنه ونحن أعداء، فبالأحرى كثيرًا نخلص بحياته ونحن مُصالَحون.
الإنجيل: متّى ٦: ٢٢-٣٣
قال الربّ: سراج الجسد العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرا. وإن كانت عينك شرّيرة فجسدك كلّه يكون مظلمًا. وإذا كان النور الذي فيـك ظلامًا فالظلام كم يكون؟ لا يستطيع أحد أن يعبد ربـّين لأنّه، إمّا أن يُبغض الواحد ويحبّ الآخر، أو يُلازم الواحد ويرذل الآخر. لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال. فلهذا أقول لكم لا تهتمّوا لأنفسكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست النفس أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء فإنّها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماويّ يقوتها. أفلستم أنتم أفضل منها؟ ومَن منكم إذا اهتمَّ يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدة؟ ولماذا تهتمّون باللباس؟ اعتبِروا زنابق الحقل كيف تنمو. إنّها لا تتعب ولا تغزل. وأنا أقول لكم إنّ سليمان نفسه في كلّ مجده لم يلبس كواحدة منها. فإذا كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم وفي غد يُطرح في التنّور يُلبسه الله هكذا، أفلا يُلبسكم بالأحرى أنتم يا قليلي الإيمان؟ فلا تهتمّوا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس؟ فإنّ هذا كلّه تطلبه الأُمم، لأنّ أباكم السماويّ يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا كلّه. فاطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، وهذا كلّه يُزاد لكم.