يتساءل القارئ عندما يطالع رواية دعوة التلاميذ الأوّلين، بحسب إنجيل متّى (متّى ٤: ١٨-٢٢)، عن مقدار واقعيّة هذه الحادثة. هل من المعقول أن يترك الصيّادون الأربعة كلّ شيء في الحال، ويتبعوا شخصًا غريبًا لمجرّد أنّه دعاهم؟ في حين أنّ لا ذكر يسبق هذه الحادثة، في إنجيل متّى، يفيد أنّ معرفة سابقة تربطهم بيسوع.
نجد الإنجيليّ لوقا أكثر واقعيّة من معاصره متّى، إذ يستعرض سلسلة من الأحداث، تتخلّلها عجائب قام بها يسوع، تحت أنظار الصيّادين، الذين بنهايتها يصابون بالذهول ويلبّون دعوة يسوع في الحال (لوقا ٤: ٣١ لغاية ٥: ١١). تبدأ الأحداث في مجمع كفرناحوم حيث طرد يسوع روحًا نجسًا، يليها الانتقال إلى بيت بطرس وشفاء حماته، ثمّ شفاء السقماء وطرد الشياطين عند غروب الشمس. أمّا الحادثة الحاسمة فكانت في اليوم التالي، حين اعتلى يسوع سفينة بطرس العائد خائبًا من الصيد. بعد أن فرغ يسوع من تعليم الجموع الواقفة عند البَرّ، أمر بطرس بأن يتوجّه إلى العمق ويُلقي الشباك مُجدّدًا، الذي لمّا أطاع متلكئًا، اندهش من الصيد العجائبيّ الذي كاد بسبب وفرته غير المسبوقة، أن يعرّض سفينته وسفينة شريكيه يوحنّا ويعقوب للغرق. من الطبيعيّ والمعقول إذًا، بعد أن عاين الصيّادون هذه السلسلة الباهرة من الأحداث، أن يتخلّوا عن كلّ شيء وينضمّوا إلى يسوع. هكذا لا يوجد في رواية الإنجيليّ لوقا، بخلاف زميله متّى، أيّ مبرّر لطرح السؤال الوارد أعلاه.
أمّا الإنجيليّ يوحنّا فيقدّم رواية مختلفة بالكامل، إذ يخبرنا أنّ دعوة التلاميذ الأوّلين تمّت في اليهوديّة على ضفّة نهر الأردنّ وليس عند بحر الجليل (يوحنّا ١: ١٩-٥١). أتى يسوع من الجليل واعتمد على يد يوحنّا المعمدان في نهر الأردنّ، وفي اليوم التالي إذ كان المعمدان واقفًا برفقة تلميذيه أندراوس شقيق بطرس، ويوحنّا ابن زبدى، رأى يسوع ماشيًا فشهد له قائلاً: «هوذا حمل الله». على الأثر انضمّ التلميذان إلى يسوع، وسارع أندراوس إلى دعوة شقيقه سمعان الذي عندما التقاه يسوع دعاه بطرس، وفي اليوم التالي تمّت دعوة تلاميذ آخرين أيضًا.
هذا الاختلاف الظاهر أوضحه القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في سياق تفسيره الدعوة الواردة عند متّى. تكمن خلاصة قول الذهبيّ الفم، في أنّ هذه الدعوة عند بحر الجليل هي دعوة للمرّة الثانية. كان الصيّادون من تلاميذ المعمدان وسبق أن انضمّوا إلى يسوع مباشرة بعد معموديّته، بحسب ما أورد الإنجيليّ يوحنّا. لكن كما هو معلوم، اقتاد الروح القدس يسوع إلى البرّيّة ليجرّب من إبليس مدّة أربعين يومًا (متّى ٤: ١-١١، لوقا ٤: ١-١٣)، تمّ خلالها اعتقال المعمدان وسجنه (متّى٤: ١٢، مرقس ١: ١٤-١٥)، فصار التلاميذ من دون معلّم. معلّمهم السابق، أي المعمدان، انتهى في الاعتقال؛ أمّا الجديد، أي يسوع، فمتوارٍ عن الأنظار. هكذا لم يبقَ أمامهم سوى العودة إلى ديارهم وإلى حياتهم اليوميّة ومزاولة الصيد عند بحر الجليل لكسب رزقهم. وها بعد انقضاء الأيّام الأربعين يعود يسوع، ويبدأ مهمّته البشاريّة في الجليل، ويستهلّها بدعوة التلاميذ للمرّة الثانية، الذين بسبب معرفتهم السابقة به، لبّوا الدعوة مباشرة للحال من دون تردّد.
يوضح تحليل القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم الغموض، ويزيل الأسباب التي دفعت إلى طرح السؤال أعلاه. لكن سرعان ما يتقدّم السؤال إلى الواجهة مجدّدًا عند قراءة الإصحاح التاسع من إنجيل متّى. إذ رأى يسوع متّى قاعدًا إلى مائدة الجباية «فقال له: «اتبعني» فقام وتبعه» (متّى ٩: ٩، مرقس ٢: ١٣، لوقا
٥: ٢٧). لم يكن متّى مطلقًا من تلاميذ المعمدان، ولا يلمّح أحد الإنجيليّين إلى أنّ مناسبة سابقة جمعت متّى بيسوع. بل على العكس يتّفقون على أنّ دعوته تمّت بشكل مفاجئ، وعلى أنّه استجاب في الحال وتبع يسوع من دون تردّد.
لنفترض أنّ متّى حين كتابة إنجيله، كان يجهل ظروف دعوة التلاميذ الآخرين وواقعها، لكنّه بالتأكيد يدرك ظروف دعوته الشخصيّة وواقعها وحقيقتها، فلماذا غضّ النظر عن ذكرها؟ قد يعلّل القارئ أنّ شهرة يسوع شاعت وانتشرت، وتاليًا صار سهلاً على متّى أن يتجاوب مع الدعوة. لكن لا يمكن اعتبار هذا التعليل قاعدة، لأنّ أناسًا أظهروا استعدادًا أكثر من متّى تهاونوا وأحجموا عن التلبية. «تقدّم كاتب وقال ليسوع: يا معلّم أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأمّا ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. وقال له آخر من تلاميذه: يا سيّد ائذن لي بأن أمضي أوّلاً وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم» (متّى ٨: ١٩-٢٢، لوقا ٩: ٥٧-٦٢). الاستنتاج المعقول أنّ متّى تقصّد عرض الدعوة بنمط واحد مشترك، لا ليخفي حقيقة راسخة معروفة، بل ليدلّ إلى حقيقة أعمق وأبعد تؤثّر في مصير القارئ. أمّا نمط الدعوة فيمكن التعبير عنه كالتالي: دعوة إلهيّة فجائيّة تتطلّب قبولاً وتجاوبًا للحال من دون تردّد.
دعونا نسأل أنفسنا: هل من سابقة تجعل من رواية متّى أمرًا بديهيًّا يعكس تصرّفًا إلهيًّا نموذجيًّا؟ ماذا نقول حول دعوة إبراهيم في العهد القديم؟ لن تتزاحم الأسئلة في ذهن المؤمن اليهوديّ العاديّ ولن ينتابه الاستغراب إذا سمع رواية الدعوة من متّى، لأنّه يرى فيها نمطًا سبق أن اعتمده الله مع إبراهيم، كما يدرك جيّدًا أنّ أهمّيّة إبراهيم تكمن في أنّه لبى دعوة الربّ حالاً من دون أيّ شرط. «وقال الربّ لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك… فذهب أبرام كما قال له الربّ» (تكوين ١٢: ١-٤). لم يكن إبراهيم يعرف الربّ قبلاً، بل على العكس كان تحت تأثير عبادات آبائه الوثنيّة، «هكذا قال الربّ إله إسرائيل: آباؤكم سكنوا في عِبر النهر (أي بلاد ما بين النهرين) منذ الدهر، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور وعبدوا آلهة أخرى. فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر» (يشوع ٢٤: ٢-٣). إذًا قصد متّى عرض دعوة التلاميذ على نمط الدعوة الإبراهيميّة ليبيّن من جهة أنّ يسوع يجسّد النموذج الإلهيّ المُتعارف عليه في العهد القديم، ومن جهة ثانية أنّ التلاميذ مثل إبراهيم يجسّدون بقبولهم المثال الصالح الذي يجب أن يحتذي به كلّ مؤمن. يستهلّ الإنجيليّ متّى عمل يسوع استنادًا إلى القاعدة التي شرحها الرسول بولس بإسهاب في رسالتي غلاطية ورومية، وهي أنّ الدعوة المسيحيّة هي التحقيق الكامل للعهد الذي قطعه الله لإبراهيم، وأنّ الإيمان على مثال إيمان إبراهيم هو الضمانة الوحيدة لنيل الخلاص، «ماذا يقول الكتاب: آمن إبراهيم بالله فحسب له برًّا» (رومية ٤: ٣). أمّا إبراهيم فيجمع تحت عباءته جميع الناس، هو أبو اليهوديّ الذي يسير على خطوات إبراهيم ويؤمن بيسوع، وأبو الوثنيّ الذي تنازل عن آلهته ولبّى دعوة يسوع كما لبّى إبراهيم دعوة الربّ (رومية ٤: ١٠-١٢. هذا التأثير الإيمانيّ القويّ المُتجسّد في شخصيّة إبراهيم يستحضره متّى بدءًا من افتتاحيّة إنجيله كالتالي: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم» (متّى ١: ١).
إذًا لم يطمح متّى بطريقه عرضه للدعوة إلى مجرّد الإخبار، بمقدار ما أراد أن يؤسّس لنهج إيمانيّ يضمن الإنسان بواسطته البرّ والخلاص.