ترافق الصوم الكبير، الذي يبدأ يوم غد، صلاة النوم الكبرى. هي صلاة يوميّة ولكنّها تقام عمومًا في الرعايا أيّام الاثنين والثلاثاء والخميس فقط، بسبب إقامة القدّاس السابق تقديسه مساء الأربعاء وصلاة المديح مساء الجمعة.
تتكوّن هذ الصلاة من ثلاثة أقسام واضحة، ينتهي القسم الأوّل منها بقول الكاهن بصلوات آبائنا القدّيسين وإفشين، والثاني مثله والثالث بالختم. هي تجميع لثلاث صلوات كانت تُقام خصوصًا في الأديار، من الفترة التي تلي العشاء وتسبق الذهاب إلى النوم. لهذا السبب تسمّى في أدبنا صلاة بعد العشاء أو صلاة قبل النوم. نشأت هذه الصلوات التي تسبق النوم منذ القديم، فالقدّيس باسيليوس الكبير يذكرها في القرن الرابع، وتاليًا هي موجودة من قبله وقبل تنظيم الرهبنة.
تبدأ هذه الصلاة بعد الافتتاح واستدعاء الروح القدس (أيّها الملك السماويّ المعزّي روح الحقّ الحاضر في كل مكانٍ والمالئ الكل، كنزُ الصالحات ورازق الحياة، هلمَّ واسكن فينا، وطهِّرنا من كلّ دنس، وخلص أيها الصالح نفوسنا) وما يليه، بالمزمور الرابع: «إذ دعوت استجبت لي يا إله برّي». نقول أيضًا في هذا المزمور «والذي تقولونه في قلوبكم تندّموا عليه في مضاجعكم». عندنا إذًا دعوة قبل أن نذهب إلى النوم إلى وقفة محاسبة عن النهار الذي عبر. وهذا أساس في حياتنا، لئلّا يكون اليوم الذي عبر بلا قيمة عندنا. فإن كانت حياتنا بلا قيمة فالأيّام تتوالى بدون أيّ اعتبار أو تمييز. أمّا إذا كانت حياتنا لها قيمة عندنا، إذا كان وقتنا ذا قيمة، وسلوكنا ذا قيمة، وكذلك عائلاتنا وأشغالنا وكلّ اهتماماتنا، فيجب ألاّ يعبر نهار من دون أن نقف في ختامه وقفة تأمّل ووقفة محاسبة. وحتّى لو كانت حياة إنسان معدومة الأهمّيّة لديه، فهي تبقى ذات اعتبار كبير عند الربّ، والربّ يريدها دائمًا أفضل وأفضل. يذكّرنا المزمور الرابع في موقعه في صلاة النوم الكبرى بأنّه لا يمكن السموّ والنموّ نحو الأفضل بدون محاسبة.
هذه الصلاة إذًا دعوة إلى المحاسبة على ما فعلناه خلال النهار، ولكنّ هذه المحاسبة تكون أوّلاً بمعونة الله، أي بأن يكون سعينا هذا يحرّكه الله، وبأن تكون طريقة المحاسبة بهداية كلمة الله، هي المرجع ولست أنا وأحاسيسي ومنطقي هي المرجع.
بيد أنّ المحاسبة الصادقة تكشف خطايانا وما فعلناه من سوء خلال النهار، لذلك يتألّم صاحب المزمور من وضعه ومن وضع البشر فيقول: «يا بني البشر حتّى متى أنتم ثقيلو القلوب، لماذا تحبّون الباطل وتبتغون الكذب». يتألّم من وضع الإنسان فيصبح في ضيق، لذلك يعود أيضًا إلى الله ويرتمي عند قدميه ويصرخ له «إذ دعوت استجبت لي يا إله برّي، في ضيقي فرّجت لي، ترأّف عليّ وارحمني». أنا مدعوّ إذًا إلى أن أحمل خطاياي وضعفاتي وأرميها أمام الربّ وأطلب مساعدته، أطلبها بثقة العارف بمحبّة الله واللامسها، لهذا يقول المزمور «إذ دعوت استجبت لي يا إله برّي». يعني وكأنّ استجابة الربّ متزامنة مع الدعاء المرفوع إليه.
ننظر إلى الضيق والحزن والبكاء بسبب الخطيئة بإيجابيّة كبيرة في وجداننا المسيحيّ، فهذه لا تدفعنا إلى اليأس، ولا تقودنا إلى الشعور بالعجز، إنّما إلى إدراك أنّ الله معنا، لا بل إلى جانبنا، لذلك وإن قال أحدهم «من يرينا الخيرات»، ويعني بذلك أنّه لن يوجد من يرينا الخيرات في وضعنا هذا، يجيبه
المزمور «قد ارتسم علينا نور وجهك يا ربّ». الله هو الذي يرينا الخيرات. لذلك تتحوّل لهجة المزمور إلى الفرح «جعلت سرورًا في قلبي، من ثمرة حنطتهم وخمرهم وزيتهم قد كثروا، فبالسلامة أرقد وأنام معًا لأنّك أنت يا ربّ أسكنتني متوحّدًا على الرجاء». وهكذا يصبح الإنسان قادرًا على النوم بسلام.
هذا ما ينبغي أن نفعله في الفترة الممتدّة بين العشاء والنوم، هكذا نستريح من ثقل النهار وتعبه ومشاكله وخطاياه، لا نعود إلى البيت و«نفشّ خلقنا» بالأكل والشرب، لا ننزوي ونقفل على أنفسنا أمام هاتف أو تلفاز أو أنترنت، ولا نزيد تعبًا على تعب بأخبار وبرامج لا تقدّم ولا تؤخّر، ولا نتعب أنفسنا أكثر وأكثر بأفلام الحروب والإغراء والترويج لرغبات الجسد، نعود إلى أنفسنا ونرتمي في أحضان معيننا الحقيقيّ وننام نوم الراحة والسلام.