اليوم، أحد الفرّيسيّ والعشار، يبدأ زمن «التريودي» الذي ينتهي يوم السبت العظيم. والتريودي، وهو اسم الكتاب الذي تستعمله الكنيسة في صلواتها اليوميّة، يحمل في طيّاته أجمل ما كُتب عن معاني الصوم والصلاة ومقاصدهما. كما يتحدّث الكتاب مليًّا عن أهمّيّة التوبة التي ينبغي بالمؤمنين أن يمارسوها يوميًّا، التوبة التي بدونها لا معنًى لا للصلاة ولا للصوم ولا لأيّ عبادة أخرى. من هنا تبدأ الكنيسة اليوم في صلاة السحر بتلاوة الترنيمة التي ترافقنا الصوم كلّه: «إفتح لي أبواب التوبة يا واهب الحياة، لأنّ روحي تبتكر إلى هيكل قدسك آتيًا بهيكل جسدي مدّنَسًا بجملته، لكن بما أنّك متعطّف نقّني بتحنّن مراحمك». بدء الصوم ونهايته التوبة.
لا نجد في كتاب التريودي تفسيرًا منهجيًّا للنصوص الإنجيليّة، ومنها نصّ الفرّيسيّ والعشّار، بل دروسًا وإرشادات عمليّة تنفع المؤمنين في حياتهم الروحيّة لبلوغ الخلاص. هنا في قراءات اليوم عن مثل الفرّيسيّ والعشّار نجد إصرارًا على إبراز أهمّيّة التواضع طريقًا تمهيديًّا للوصول إلى التوبة، إذ لا توبة من دون تواضع، وبخاصّة أنّ أمّ الخطايا كلّها وفق التراث الآبائيّ ليست سوى الكبرياء. ففي صلاة الغروب ترتل الكنيسة هذه الترنيمة: «لا نصلِّ يا إخوة كالفرّيسيّ لأنّ مَن يرفع ذاته يتّضع. فلنتذلّل أمام الله متّضعين، وبواسطة الصيام نهتف هتافًا كالعشّار قائلين: اللّهم اغفر لنا نحن الخطأة». فمَن لا يتواضع لا يمكنه رؤية عيوبه ورذائله وخطاياه، وتغدو التوبة والعودة إلى الله دونها عراقيل جمّة.
تدعونا الترانيم التريوديّة الخاصّة بالفرّيسيّ والعشار إلى ضرورة الاقتداء بالربّ يسوع الذي أرانا التواضع عبر سيرته وأفعاله. فنقرأ في صلاة السحر هاتين الفقرتين: «إنّ الكلمة قد أبان الاتّضاع منهجًا فائق الحُسن لـمّا وضع ذاته حتّى إلى صورة عبد»، و»إنّ المخلّص والسيّد لكي يصعدنا دائمًا نحو العلوّ الإلهيّ أظهر التواضع رافعًا لأنّه رحض بيديه أرجل التلاميذ». في الفقرة الأولى إشارة إلى النشيد الذي أورده القدّيس بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبّي: «المسيح الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنّه أخلى ذاته، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس» (٢، ٦-٧). أمّا في الفقرة فإشارة إلى غسل الربّ يسوع أرجل تلاميذه عشيّة تسليمه للصلب (يوحنّا١٣، ١-١٧).
بيد أنّ هذه النصوص الخاصّة بالفرّيسيّ والعشّار، وإنْ مدحت تواضع العشّار، إلاّ أنّها أبرزت أيضًا ضرورة الاحتذاء بالفرّيسيّ من جهة احترامه للشريعة وممارسته للوصايا والتعاليم. فقد دعت هذه النصوص إلى أن نجمع ما بين حرص الفرّيسيّ على إتمام الشريعة من جهة، وتواضع العشّار وتوبته من جهة أخرى: «هلمّ أيّها المؤمنون لنبادر إلى مماثلة فضائل الفرّيسيّ وتواضع العشّار ماقتين ما وُجد سيّئًا بكليهما أعني الجهل ودنس السقطات» (صلاة السحر). هذا لا يتناقض مع خاتمة إنجيل اليوم: «إنّ العشّار نزل إلى بيته مبرّرًا دون ذاك»، ولكنّ النصّ اليونانيّ يتيح بترجمة أخرى أن نقرأ إنّ العشّار نزل إلى بيته مبرّرًا «أكثر» من الفرّيسيّ. من هنا يستعير التريودي صورة المباراة للحديث عن فوز العشّار على الفرّيسيّ: «إنّ الفرّيسيّ قد احتسب ذاته راكضًا على مركبة الفضائل إلاّ أنّ العشّار لـمّا سارع على أثره ماشيًا إذ أقرن التواضع بالخشوع، تجاوزه عابرًا».
قيل في التراث الكنسيّ عن مثل الفرّيسيّ والعشّار الكثير من التفاسير والشروحات والعظات… كلّها أشادت بالتواضع الذي أظهره العشّار في وقوفه في حضرة الله، وعدم النظر في سوى خطاياه دون غيره من الناس. يقول المغبوط أغوسطينُس أسقف عنّابة (+٤٣٠): «ما أنجع دواء التوبة وما أجداه. إنّ الذين يتذكّرون أنّهم بشرٌ يفهمون ذلك. لقد كُتب: إنّ الله يصدّ المتكبّرين، ويُنعم على المتواضعين. العشّار جاء إلى الطبيب. فمن الأجدى أن يعترف بسقطاته، بدلاً من كتمانه لجروحه وتجاسره على الابتهاج بندوب الآخرين. ليس غريبًا أن ينصرف العشّار مبرورًا، لأنّه لم يخجل من أن يكشف عن مواطن ذاته». عندما يأتي المريض إلى الطبيب، لا يحدّثه عن أمراض الآخرين بل عن أمراضه هو، كي يصف له الطبيب العلاج فيشفى ولا يموت. أمّا إذا عرض له أمراض الآخرين فسيموت بمرضه وتذهب زيارته هباء.
يوجز القدّيس باسيليوس الكبير أسقف قيصريّة كبادوكية (+٣٧٩) الدروس والعبر التي يتضمّنها مثل الفرّيسيّ والعشّار، بقوله في إحدى مواعظه عن التواضع: «إنّ الفرّيسيّ الثقيل الذي ذهب بنفسه مذهب الكبر والخيلاء، وأدان العشّار بمحضر من الله أضاع بذنب الكبرياء برّه. نزل العشّار إلى بيته مبرورًا لأنّه مجّد الله القدّوس، ولم يجرؤ على أن يرفع عينيه، بل ابتغى الرحمة. أدان نفسه بوقفته وبقرعه صدره، وبابتغائه الرحمة. غنّ الفرّيسيّ المتجبّر أضاع برّه وخسر مكافأته بإعجابه بنفسه. خُفض أكثر من المتواضع الآثم، لأنّه، بامتطائه ظهر التيه، لم ينتظر حكم الله، بل أعلنه بنفسه. لا ترفع نفسك، أيّها الإنسان، فوق أيّ شخص آخر، حتّى فوق كبار الأثمة. كثيرًا ما يخلّص التواضع الآثم المرتكب المعاصي الكثيرة والعظيمة».