يُدخلنا مثل المدعوّين إلى العشاء في سرّ علاقة يسوع مع الإنسان، حيث يعبّر يسوع عن رغبة أبيه بدعوتنا إلى مائدته، أي إلى الشركة معه. فمائدة الطعام، وهي خبرة مأخوذة من حياتنا اليوميّة، صورة تصلح للتعبير عن الشركة التي تجمع بين ندمائها والدّاعي إليها. وهذا ما تجسّده الكنيسة بامتياز في اجتماعها الإفخارستيّ، في اجتماع المؤمنين حول مائدة الربّ.
عبر المثل، نتعرّف إلى وجه المأساة في هذه العلاقة، نتيجة عيش الإنسان في غربة عن الله. وجه من وجوه هذه المأساة أن يخطئ الإنسان في استخدام حرّيّته عندما يُعرض عن الدخول في الشركة التي يَعرضها الله عليه. أطلّ يسوع على هذا الوجه عبر نماذج ثلاثة أفصح عنها في المثل ومرتبطة بصلب الممارسة اليوميّة. فقد اتّخذ ثلاثة من المدعوّين من ظروف الحياة حجّة ليحلّوا أنفسهم من التزامهم السابق بتلبية الدعوة، في رفض ظاهر وواضح، ولربّما مقصود، من قبلهم بقصد عدم مشاركة الدّاعي في مائدته. هؤلاء آثروا في آخر لحظة، ولأسباب مختلفة، أن «يستعفوا»، وهم قاموا بذلك باتّفاق في ما بينهم، «برأي واحد» (لوقا ١٤: ١٨).
وجه آخر من المأساة هو وجود كثيرين خارج هذه الشركة، لأسباب كثيرة، وأهمّها غياب الفرصة السانحة المعطاة لهم على عكس حال المستعفين الثلاثة. شمل الداعي اليوم، بقصده ودعوته، أولئك الذين وضعتهم ظروف الحياة خارج هذه الصلة بالدّاعي، فدعاهم، على دفعتَين. كانت حياة هؤلاء مأساة بداعي الشقاء الذي يعيشون فيه، فهم من «المساكين والجدع والعرج والعمي»، ومن الذين يعيشون على «الطرق والسياجات» (لوقا ١٤: ٢١ و٢٣).
أمام وجهَي المأساة هذه، نلمس تواضع يسوع، فهو ينزل إلى قعر المأساة ويلامسها بحنان وثبات وإخلاص لقصد الله تجاه المخلوقين على صورته، وإن تفاعل معه هؤلاء بطرائق مختلفة، سلبيّة أو إيجابيّة. هو يلامس حرّيّتنا وظروف حياتنا اليوميّة، ويمعن في إعلاء كرامة الإنسان عبر خطب ودّه – إذا جاز التعبير- بإرساله عبده إلى مَن سبقت دعوتهم، وأيضًا إلى مَن استدركهم بالدعوة، على حدّ سواء (لوقا ١٤: ١٧، ٢١ و٢٣)، ويحرص على احترام حرّيّة المدعوّين بشكل لافت، ولو أُهينت كرامته من وجهة نظرنا الإنسانيّة. فالإنسان يتحمّل في النهاية تبعة حسن أو سوء استخدام حرّيّته أمام دعوة الله ليدخل في الشركة معه. وشاء يسوع أن يُظهر الطابع المصيريّ لهذا الاستخدام بقوله: «أقول لكم إنّه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوّين يذوق عشائي» (لوقا ١٤: ٢٤).
نعم، قَبِل يسوعُ واقعنا الساقط ولم يدِنْه أو يحكم عليه. فهو أتى ليعطينا الفرصة لتغيير هذا الواقع. وأوضح لنا المثل كيف أنّ البعض كان مكتفيًا بما حقّقه أو صار له من حياة كريمة في نظرهم، فاستعاض بها عن الشركة مع الله. على عكس هؤلاء، فإنّ الذين فقدوا كلّ مقوّمات الحياة الكريمة المادّيّة أو الإنسانيّة، فهؤلاء قبلوا دعوة الله ليس لأنّهم وجدوا مائدة أرضيّة، بل مائدة روحيّة لمسوا أهمّيّتها بقدر الاتّضاع الذي عاينوا قعره بداعي الظروف التي عاشوها. لمسوا في كلمة الله تعزية، وفي حنانه طعامًا مغذّيًا، وفي الجلوس إلى مائدته استعادة لإنسانيّتهم وكرامتهم التي هدروها في غربتهم عنه.
أنقذ يسوع بتواضعه مَن تغرّبوا عن الله وقبلوا دعوته. إنّه تواضع قاده إلى حمل صليب غربتنا، وخدمة سرّ التدبير الخلاصيّ بيننا، وتقديم جسده على مائدة شركتنا مع الله. إنّه الصليب ذاته الذي يحمله مَن يتبعون يسوع ويخدمون التدبير عينه بإخلاص. كم يحتاج هؤلاء اليوم إلى الصبر والحكمة والنعمة في سبيل تحقيق هذه الدعوة، على مثال يسوع في تحمّل واقع الإنسان المتغرّب عن الله، ليحافظوا على الحميّة في الخدمة التي رأيناها فيه، وعلى اتّضاعه أمام الواقع المأساويّ، وعلى رجائه بأنّه قابل للفداء! كم من النباهة واليقظة والاتّضاع يحتاج الذين اكتفوا بأنفسهم أو بواقعهم فتغرّبوا عن الله في قلوبهم! هلّا جمعتنا إذًا المائدة الإفخارستيّة حيث شركتنا مع الله، وكذلك خدمة القريب فهي فرصة رؤية وجه الله فيه!
+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
لرسالة: كولوسي 4:3-11
يا إخـوة، متى ظهر المسيح الذي هو حياتنـا فأنتم ايضا تُظهَرون حينئذ معه في المجد. فأَميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع الذي هو عبادة وثن، لأنه لأجل هذه يأتي غضبُ الله على أبناء العصيان، وفي هذه انتم ايضا سلكتُم حينًا إذ كنتم عائشين فيها. اما الآن فأنتـم ايضا اطرحوا الكل: الغضب والسخط والخبث والتجديف والكلام القبيح من أفواهكم. ولا يكذب بعضُكم بعضا بل اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله والبَسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة على صورة خالقه حيث ليس يونانيّ ولا يهوديّ، لا ختان ولا قلف، لا بربريّ ولا اسكيثيّ، لا عبدٌ ولا حُرّ، بل المسيح هو كل شيء وفي الجميع.
الإنجيل: لوقا ١٤: ١٦-٢٤
قال الربّ هذا المثل: إنسان صنع عشاء عظيمًا ودعا كثيرين، فأرسل عبده في ساعة العشاء يقول للمدعوّين: تعالوا فإنّ كلّ شيء قد أُعدّ. فطفق كلّهم، واحد فواحد، يستعفُون. فقال له الأوّل: قد اشتريتُ حقلًا ولا بدّ لي أن أخرج وأنظره، فأسألُك أن تُعفيني. وقال الآخر: قد اشتريتُ خمسة فدادين بقر وأنا ماضٍ لأُجرّبها، فأسألك أن تُعفيني. وقال الآخر: قد تزوّجتُ امرأة فلذلك لا أستطيع أن أجيء. فأتى العبد وأخبر سيّده بذلك. فحينئذ غضب ربّ البيت وقال لعبده: اخرُجْ سريعًا إلى شوارع المدينة وأزقّتها، وأَدخِل المساكين والجدع والعميان والعرج إلى ههنا. فقال العبد: يا سيّد قد قُضي ما أَمرتَ به، ويبقى أيضًا محلّ. فقال السيّد للعبد: اخرُجْ إلى الطرق والأسيجة واضطررهم إلى الدخول حتّى يمتلئ بيتي. فإنّي أقول لكم إنّه لا يذوق عشائي أحد من أولئك الرجال المدعوّين، لأنّ المدعوّين كثيرون والمختارين قليلون.
Raiati Archives
وجها الغربة عن اللهوالشركة معه في يسوع المسيح