في الكتاب المقدّس رواياتٌ متعددةٌ تحكي الغربة والسفر والانسلاخ. فيوسف الصدّيق مثالٌ عن خبرة المنفى ويونانُ النبيّ استباقٌ للمهمّات الرسوليّة. أمّا الابن الشاطر فرمزٌ لكلّ من اشتهى تغييرًا أو انعتاقًا أو تقديرًا.
إن كان من نافل القول أنّ الابتعاد عن الأهل والأصدقاء والوطن إن هو إلّا وجعٌ وفراق، غير أنّ الغربة الحقيقيّة مدرسة للرجاء. كيف يصحّ ذلك والغريب لا سند له؟ قد يجد نفسه بلا مأوى، قد لا يجد كتفًا ليبكي حين يحزن، قد لا يجد سريرًا لينام حين يتعب ولا أذُنًا تسمع حين يصرخ. يعيدنا هذا الواقع إلى كلمات يسوع في إنجيل متّى: « تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ لأنّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي». الجوع والعطش متلازمان في هذه الآية. هما من نتائج الغربة.
لكن هل لوجع الغربة من معنى؟ المعنى الروحيّ للغربة هو المفتاح الوحيد لبوّابة الصبر والاحتمال. يحدّد يوحنّا السينائيّ، كاتب السلّم إلى الله، الغربة على أنّها «الإعراض النهائيّ عن كلّ شيء يُعيقُنا في وطننا عن بلوغ التقوى التي نشدناها». يتخطّى إذًا هذا التعريفُ الآبائيّ المفهومَ الجغرافيّ للسَفَر. كذلك تعكس أدبيّاتُ الأسبوع العظيم المقدّس فَهمًا جديدًا للغربة: حين يطرب الشرقيّون لترتيل «أعطني هذا الغريب» ينسى معظمنا أنّ الكلمات تقول صراحةً «أعطني هذا الغريب الذي أبناء جنسه حكموا عليه بالموت بغضًا كغريب». لذلك فقد يعيش الإنسان الغربة في وطنه وبين إخوته إن هم كانوا ظالمين. وقد يعيش الغربة في بيته وقلبه إن نسيَ أنّه حبيب الله.
يذكّرنا الأب جورج مسّوح أنّ «المسيح هو الغريب، وهو، في الآن عينه من يصنع الرحمة إلى الغريب». هكذا يحوّل الربّ غربتنا الجغرافيّة ومنفانا السياسيّ وانسلاخنا العائليّ إلى مكان للقاء به. ليست أرض ميعادنا مع الله من طين هذه الدنيا ولا هي في غربة صحاريها. يقول كاتب المزامير: «للربّ الأرض وكلّ ما فيها، المسكونة وجميع ساكنيها». إذًا ليست الغربة الدنيويّة شرطًا للقاء الله ولا السفر البعيد هدفًا لذاته. كذلك لا ينفع «أن يسكن الإخوة معًا» إن كان البقاء في البيت يعني الاستناد إلى سهولة التقليد واجترار العادات السيّئة الخاطئة. معنى الغربة هذا يُعيدنا إلى تعليم القدّيس يوحنّا السلّميّ الذي يشجّعنا على الانسلاخ عن كلّ شيء يُعيقُنا في وطنِ قلبنا وأرض ذهننا عن بلوغ التقوى التي نشدناها. عندها تغدو الغربة تطلّعًا إلى التوبة وإلى تجديد النفس وإلى الخلاص بيسوع. الغربة الحقيقيّة بمعناها الروحيّ دعوة إلى الخروج من العصبيّات القوميّة والابتعاد عن التكتّلات القبليّة. هي استحضارُ وجهِ يسوع في وجه كلّ قريب وغريب. الغربة إن سكنها الله تغذّي فينا الشوق إليه وتلهب من جديد نار الحبّ الأوّل.
Raiati Archives