كيف للمرء أن يواجه امرأة مريضة تنزف دمًا منذ اثنتَي عشرة سنة، أو رجلًا فقد وحيدته ذات الاثنَي عشر ربيعًا؟ كيف للمرء أن يواجه نفسه والمحيطين به في مثل هذه الحالة؟ كيف يواجه يسوع كلّ هؤلاء ويواجهنا في حياتنا؟ الجواب عن هذه الأسئلة نعثر عليه في قيادة يسوع المرأة النازفة ورئيس المجمع في معارج طريق الإيمان به!
أن تؤمن بالمسيح يعني أن تنكر ذاتك أوّلًا. من السهل أن تطلب العجيبة وأن يلبّيها الربّ. ولكن من الأصعب أن تنكر ذاتك من أجل أن تؤمن به. امتحن يسوع قدرة نكران الذات لدى المرأة ولدى رئيس المجمع حينما أراد أن يشقّ طريق قلبَيهما إلى الإيمان. هاكم المرأة النازفة تلبّي طلب يسوع بأن تكشف عن نفسها بعد أن أرادت أن تبقى مستورة. بالفعل، تجاوزت خجلها من مرضها المزمن ومن النظرة المبخِّسة لها لكونها نجسة بداعي دائها. وهاكم أيضًا رئيس المجمع يلبّي دعوة يسوع إلى أن يدع الخوف جانبًا ويتعلّم الاتّكال على الله، فسلك طريق تجاوز المشاعر الأبويّة والحزن المسيطر على أهل بيته ويقف مع يسوع أمام وحيدته الميّتة.
أن تؤمن بالمسيح يعني أن تختار أن تعيش بحسب مشيئة الله. فنكران الذات لا يعني شيئًا إلّا إذا كان في خطّ قطع المشيئة الذاتيّة من أجل صنع مشيئة الله. اختيار كهذا والمثابرة عليه والعيش على أساسه حريّ بأن يقود المؤمن بيسوع إلى سلام النفس والجسد معًا. هذا ما سعى يسوع إلى أن يثبّت المرأة النازفة فيه وأن يدعو رئيس المجمع إلى اكتشافه. فقال للأولى: «ثقي يا ابنة. إيمانك قد شفاك. اذهبي بسلام»، بينما قال للثاني: «لا تخفْ. آمنْ فقط فهي تُشفى» (لوقا ٨: ٤٨ و٥٠).
أن تؤمن بالمسيح يعني تعهّدًا متبادلًا، فيتعهّدك يسوع وتتعهّد نفسك وسواك بشكل متوازٍ. فليس القصد من الإيمان أن يتعهّدك المسيح فقط في حاجاتك وضعفاتك، في واقعك ومرتجاك، من دون أن يكون لك دور ومساهمة ونضال في هذا السبيل. فبعد أن حملت المرأة النازفة علامة الشفاء في جسدها، بات عليها أن تحمل علامة الشفاء في روحها، عندما دعاها يسوع إلى السير في الحياة بناء على الإيمان به
فلا يتزعزع بشيء سلامها الذي أخذته من المسيح. وبعد أن شهد رئيس المجمع إقامة ابنته الوحيدة، كان عليه أن يقوم مع زوجته بإطعامها، أي أن يتعهّدها في طريق الإيمان، أي حياة الروح، وليس فقط حياة الجسد وحاجاته.
أن تؤمن بيسوع يعني أن تدعه يخاطب أعماقك، سيّما حينما تكون خائفًا، مكروبًا، متألّمًا، حزينًا، وأن تصغي إليه وهو يدعوك، لا بل يأمرك، بأن تخرج إلى النور، حيث تتعلّم أن تعاين الأمور والأشخاص بعين الله وفي قصده وتدبيره، في نور محبّته وصلاحه اللامتناهي، فلا تبقى أسير معطيات الواقع الذي يلفّه المرض والموت وتتقاذفه الأفكار المتعبة والتحاليل المتعدّدة. أَوَليس في ذلك شفاء لأعماقك فتنفتح على أفق الشركة مع الله والحقّ والمحبّة والتي لها أن تزيّن صلاتك وخدمتك بمكتسباتها؟
أن تؤمن بيسوع يعني أن تقبل أن يقودك إلى الإيمان به فتشرب كأسه حتّى الثمالة. هكذا تتدرّج في تعلّم طريق اتّباعه كما تعلّمه بطرس مع مَن معه في حادثة المرأة، أو مع يعقوب ويوحنّا حينما عاينوا إقامة ابنة رئيس المجمع (لوقا ٨: ٤٥ و٥١). تعلّم بطرس من موقف المرأة النازفة ليس الجرأة الآتية من الموقع الذي يحتلّه بين التلاميذ، بل الجرأة الآتية من كونه واقفًا أمام فاديه وهو يعترف بالضعف الذي يعتريه وهو واثق فيه ومسلِّم أمره إليه. ولا شكّ في أنّه تعلّم أيضًا من موقف رئيس المجمع الذاهب ليعاين وحيدته الميتة متحلّيًا بالثقة بكلام المسيح بشأنها. أَوَليس في هذَين الموقفَين ما يجعلنا نتذكّر موقف بطرس نفسه في آلام المسيح وبعد قيامته؟
أن تؤمن بيسوع يعني أنّ تشقّ طريق حياتك مع ما تحمله إليك من دون أن تنكسر بسببها. ولكن عليك أن تكسر ذاتك من جهة أنانيّتك وعقلانيّتك وخطيئتك لكي تبقى ثابتًا في دعوة المسيح إلى ألّا تخاف، فتثق به كيفما تجلّت مشيئته في حياتك، وذلك بحسب خبرة رسول الأمم: «ونحن نعلم أنّ كلّ الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبّون الله، الذين هم مدعوّون حسب قصده» (رومية ٨: ٢٨). هلّا انتبهتَ ألّا تترك أحدًا يضع لك حدًّا لحياتك في المسيح هامسًا في أذنَيك: «لا تتعب المعلّم» (لوقا ٨: ٤٩)؟ نعم، الربّ حاضر لأن يمنحك نعمة الإيمان به، الذي به تنتصر على ذاتك وتربح الحياة فيه.
+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: غلاطية ١: ١١-١٩
يا إخوة، أُعلمكم أنّ الإنجيل الذي بَشّرتُ به ليس بحسب الإنسان لأنّي لم أَتسلّمه وأَتعلّمه من إنسان بل بإعلان يسوع المسيح. فإنّكم قد سمعتم بسيرتي قديمًا في ملّة اليهود أنّي كنتُ أَضطهدُ كنيسة الله بإفراط وأُدمّرها، وأَزيد تقدّمًا في ملّة اليهود على كثيرين من أَترابي في جنسي بكوني أَوفر منهم غيرةً على تقليدات آبائي. فلمّا ارتضى الله الذي أَفرزني من جوف أُمّي ودعاني بنعمته أن يُعلن ابنه فيّ لأُبشّر به بين الأُمم، لساعتي لم أُصغِ إلى لحم ودم، ولا صعدتُ إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقتُ إلى ديار العرب، وبعد ذلك رجعتُ إلى دمشق. ثمّ إنّي بعد ثلاث سنين صعدتُ إلى أورشليم لأَزور بطرس فأقمتُ عنده خمسة عشر يومًا، ولم أرَ غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الربّ.
الإنجيل: لوقا ٨: ٤١-٥٦
في ذلك الزمان دنا إلى يسوع إنسان اسمه يايرُس وهو رئيسٌ للمجمع وخرّ عند قدمَي يسوع وطلب إليه أن يدخل إلى بيته لأنّ له ابنةً وحيدةً لها نحو اثنتي عشرة سنةً قد أَشرفت على الموت. وبينما هو منطلق كان الجموع يزحمونه، وإنّ امرأة بها نزفُ دمٍ منذ اثنتي عشرة سنةً وكانت قد أَنفقت معيشتها كلّها على الأطبّاء ولم يستطع أحد أن يشفيها. دنت من خلفه ومسّت هُدب ثوبه، وللوقت وقف نزف دمها. فقال يسوع: من لمسني؟ وإذ أَنكر جميعُهم، قال بطرس والذين معه: يا معلّم إنّ الجموع يضايقونك ويزحمونك وتقول من لمسني؟ فقال يسوع: إنّه قد لمسني واحد، لأّنّي علمتُ أّن قوّةً قد خرجت منّي. فلمّا رأتِ المرأة أنّها لم تَخفَ جاءت مرتعدةً وخرّت له وأَخبرت أمام كلّ الشعب لأيّة علّة لمسته وكيف برئت للوقت. فقال لها: ثقي يا ابنة. إيمانُك أبرأك فاذهبي بسلامٍ. وفيما هو يتكلّم جاء واحد من ذوي رئيس المجمع وقال له: إنّ ابنتك قد ماتت فلا تُتعب المعلّم. فسمع يسوع فأجابه قائلًا: لا تخفْ. آمنْ فقط فتبرأ هي.
ولـمّا دخل البيت لم يدَعْ أحدًا يدخل إلّا بطرس ويعقوب ويوحنّا وأبا الصبيّة وأُمّها. فقال لهم: لا تبكوا، إنّها لم تمُت ولكنّها نائمة. فضحكوا عليه لعلمهم بأنّها قد ماتت. فأَمسك بيدها ونادى قائلًا: يا صبيّة قومي. فرجعت روحُها وقامت في الحال، فأمر بأن تُعطى لتأكل. فدهش أبواها، فأوصاهما بألّا يقولا لأحدٍ ما جرى.
Raiati Archives