نقلتها إلى العربية أسرة التراث الأرثوذكسي
الحذاء وسيلة للاتضاع
قرأت في “Ευεργετινός” بلاديوس (بالعربية: كيف نحيا مع الله) عن حياة القديس أوارس: “في البداية عاش في الصحراء وكان يأكل الأعشاب والجذور الحلوة، ويشرب الماء حين يستطيع إيجاده، ويقضي كلّ وقته في الصلاة والترنيم”. أظن أن هذا الوصف ملائم تماماً لحياة الأب فيلاريت النسكية. فهو قد كان صديقاً حقيقياً للفضيلة بكونه إحدى الأزهار العطرة التي تنمو على صخور كاروليا.
لقد كان يمشي دائماً حافي القدمين. في إحدى المرات، اراد شيخنا الأب يرونديوس أن يمتحن ما إذا كانت محبته وبساطته من الله أو من الأنانية. فناداه: “أيها الأب فيلاريت”
“بارك أيها الشيخ”
“أنت مخادع! أنت تتنقل حافياً بغنباز قديم، عارضاً تواضعك”.
أجاب الأب فيلاريت باتضاع مخفضاً نظره: “نعم، أنا مخادع! ماذا عليّ أن أفعل لأنقذ نفسي من هذه الوضاعة؟”
“من اليوم تتنقل لابساً حذاءً”
“حسناً أيها الشيخ. فليكن مباركاً”.
وبعد أن انحنى أمامه مضى. وجد زوجاً من الأحذية في أحد الأمكنة، وحملهما بين يديه وعاد إلى منسكه. لبسهما قبل أن يدخل. لقد كان الأمر مؤلماً جداً. من بعد سنوات طويلة من السير حافياً اعتادت قدماه الحرية وببساطة لم تحتملا الحصر في حذاء. لكن الطاعة والتواضع، كما تعلمون، تعملان المعجزات! حضور الفضيلة يثبت عندما يتحكّم فيكم أحد الإخوة، وأنتم تطيعون باتضاع. هذا التصرف هو بمثابة النار المحرقة للشيطان!
قال له الشيخ: “كل شيء حسن الآن! أنت راهب متواضع”
فأجاب الشيخ فيلاريت: “فيكن مباركاً ياروندا فليكن مباركاً”
وبعد أن عمل سجدة، مضى في طريقه، متعثراً في سيره الحذِر، كمثل طفل صغير… بالقرب من المنسك كان ينمو الكثير من الأعشاب البرية. كان الأب فيلاريت يقتلع ما يؤكل منها ويجلبه إلينا قائلاً: “كلوا ايها الآباء. هذا من الله. هذه الأعشاب يجب أن يأكلها الذين يعملون من أجل الله وليس تنبل (متكاسل) مثلي”.
لا أستطيع أن اُقسِم
جاءه مرة رجل يلبس جبة مسمياً نفسه شماساً. وإذ رأى كتب الشيخ وضع عينه عليها ثم أخذها بالسر وهو ماضٍ. لم يكن يعلم أن في دافني، نقطة الخروج من الجبل المقدس، هناك شرطة وتفتيش لكل ما هو محمول. هناك أُوقِف وسُئِل: “من أين لك هذه الكتب”. فكذب ليبرر نفسه قائلاً: “من الأب فيلاريت في كاروليا، لقد باعها لي” وأكمل افتراءه بقوله: “إنه يبيع الكتب بشكل غير قانوني”.
وصلت الشرطة إلى المنسك وابتدأ التحقيق. وإذ كانوا مصدقين الشماس الأثيم، سطّروا دعوى ضد الأب فيلاريت. وما لبث أن وصل الاستدعاء. معظم الآباء لا يعرفون ما هو هذا؛ فهذه الإجراءات الدنيوية غير معروفة لديهم. شرحنا له معنى ذلك فقال”ولكن كيف أصل إلى هناك؟ رجاءً خذوني”.
قمنا بكل ما هو ضروري. وجدنا بعض الثياب التي كانت أجدد من غيرها لأن غنبازه كان قديماً جداً ومهترئاً. أيضاً طلبنا من أحد معارفنا وهو محامٍ أن يرافق الأب فيلاريت إلى المحكمة وجمعنا بعض المال ليصل الأب إلى تسالونيكي ويُحاكَم، وهو برأينا المتواضع لن يدينه الرب “في ذلك اليوم” (متى 22:7). لقد كان رجلاً من السماء وزهرة عطِرة في الصحراء!
قال الأب فيلاريت: “سوف أطيع الدولة وأذهب ليحاكموني”. ومضى إلى تسالونيكي. لم يكن قد ترك الجبل المقدس منذ ثماني وخمسين سنة قضاها في كاروليا، مقتاتاً الأعشاب البرية والماء الممنوحَين من الله هناك. رجل مبارَك بلغ مرتبة عالية من الفضيلة كان في المحكمة كمتّهم. لا أعرف كيف تسير الأمور هناك ولم أطأ عتبة تلك المؤسسة. أذكر فقط الشيخ يقول لنا أن رئيس المحكمة سأله: “الراهب فيلاريت؟”
فأجاب الأب باتضاع ورأسه مطأطأ “نعم هو، غير المستحق”!
“لمَ بعتَ هذه الكتب؟”
“أنا لم أبِعْها! أتى أخ إلي وأخذها ليقرأها. على أن يعيدها لاحقاً. هذا ما ظننتُه…”
“أيها الأب، عليك أن تعطي شهادة بقسَم لكي نصدقك. هذا هو ترتيب إجراءات المحكمة”
“أنا لا أستطيع! يقول في الإنجيل: لا تحلف (متى 34:5).”
“لكن عليك أن تُقسِم أيها الأب”
“كيف يكون ذلك؟”
“عليك أن تضع يدك على الإنجيل.”
فإذ بالأب فيلاريت يقوم بثلاث مطانيات ويقبّل الإنجيل بورع… “أهذا يكفي؟”
“لا، أيها الأب. عليك أن تضع يدك على الإنجيل وتقول: ’أقسم…’”
“لا أستطيع أن أُقسِم”
“لكن إن لم تقسِم فسوف تذهب إلى السجن لتسعة أشهر”
“وألف مرة أقبل الذهاب إلى السجن! أنا أنتظر من الرب الحكم الأبدي على خطاياي! أأهتمُّ بتسعة أشهر في السجن؟”
كان الشماس الكاذب حاضراً في القاعة لابساً جبّة غالية، متصرفاً بزهو وغطرسة. محاميه أخبر مجموعة من الأَكَاذِيب، منها بشكل خاص: “أهو ممكن سيدي القاضي أن هذا الإكليريكي الباهر قد يسرق كتباً من صعلوك كهذا؟”
في النهاية ، القذف وإخفاء الحقيقة أمالا القاضي إلى جانب اللص الخدّاع، والراهب الناسك، الواقف أمامهم بقلنسوة قديمة، الذي لا يجيد فن الكذب والذي لم ينطق بأداء اليمين من قبل، فقد وُجد مذنباً. وصدر الحكم وأخذت الشرطة الأب فيلاريت إلى السجن.
لم يأبه القاضي بما سيحدث للراهب، لكن القوم العاديين لم يفعلوا ذلك. لقد جمعوا المبلغ اللازم من المال لدفع الكفالة وإطلاق سراح الشيخ من السجن. الأب فيلاريت ببساطته المعتادة، بعد أن شكر الجميع يمّم شطر كاروليا، مكان اعتزاله لسنوات عديدة. لقد شَكَرنا لأننا قدمنا له كل المساعدة التي يمكننا تقديمها أيضًا. “شكراً لكم أيها الآباء… صلوا لكي يخلصني الرب من السجن الأبدي!”
بالمناسبة، كان سعيدًا جدًا بمحامينا الذي دافع عنه في المحكمة. هذا الناسك القديس دائماً يفكّر بالجميع بلطف. فقد قال لنا بحماس: “إن روح الله يسكن في هذا المحامي! لقد وصف كل شيء بالطريقة التي حدث بها بالضبط!”
فقلت له: “ياروندا، ببساطة، هذا عمله”، فأصرّ الشيخ: “لا، إن فيه روح الله”.
سألته: “ياروندا، لقد عشتَ بعيداً عن العالم لثماني وخمسين سنة، كيف رأيت الوضع هناك؟” كما ذكرنا سابقاً، إنه شخص صالح لا يرى سوى الصلاح في كل شيء. أجابني: “ماذا استطيع أن أقول أيها الآباء؟ كل الناس هناك في العالم صالحون جداً. جميعهم يركضون هنا وهناك، إلى الأمام وإلى الوراء، من أجل خلاصهم. كلهم، ما عداي أنا الخاطئ الكسول المستلقي على هذه المنحدرات الصخرية ولا أقوم بأي عمل، ولا أتمم مشيئة الله!”
بعد هذا الكلام انسحب إلى قلايته، ممجداً الله الذي أرسل إليه هذه التجربة في آخر حياته من أجل خلاص نفسه.
الرقاد المبارَك
عندما تقدم في الشيخوخة، دعانا مرة، أنا والأب أكاكيوس إلى قلايته وقال لنا بفرح: ” لِتَبقوا بخير يا أبنائي. من الجيد أنكما أتيتما، لأنني لن أراكم مجددًا! سأغادر الليلة… لكن قبل أن يحدث ذلك، أود منكما أن تعزّياني”. سألناه: “كيف، ايها الشيخ؟”
“اقرءا لي المزامير، شيئاً يهدئ النفس”. قرأنا عدداً من المزامير المتنوعة، فيما كانت دموع الفرح تنهمر على خديه، وكان يرسم إشارة الصليب طوال الوقت. بعد أن توقفنا، قال: “أريد أن أطلب منكم شيئاً أخيراً: رتّلا لي ’بواجب الاستئهال’، لكن دعونا نقف، كما نفعل عند إنشادنا نشيد بلادنا الوطني”.
نهض بصعوبة إذ كان مرهقًا جدًا وقد صارت بشرته شبه شفافة في اللون. بعد أن انتهينا، قال الشيخ، وفي عينيه دموع الفرح، وهو يعانقنا ويقبلنا: “أبنائي، أراكم هنا للمرة الأخيرة! سامحوني ، سامحوني!”
الجميع بكى. كان الأب فيلاريت يهدئنا. تركناه متأثرين بعمق. في الصباح، علمنا أنه رقد! تماما كما تنبأ …
دفنّاه بين الصخور بطريقة لائقة وجديرة بالاحترام. سوف أقول التالي بكلمات مؤمن عادي: نجمٌ من النسك الرهباني خرج في سماء جبل آثوس، لكنه ترك وراءه درباً مشرقاً، يبيّن لنا كيفية الجهاد والبقاء ثابتين في النسك. ليكن ذكره مؤبداً! صلّي لي يا أبتي!.
غالبًا ما يحدث أن في نهاية حياتنا، يرسل لنا الرب القدوس نوعًا من التجارب التي تجعلنا أفضل، ويستفيد مَن حولنا أيضًا. هكذا ما جرى مع الاب فيلاريت الذي عمل بتواضع وكافأه الله. لقد سمعت (يا سيد ميلينوس: الرجل الذي يتوجّه إليه القديس دانيال في رسالته؛ المترجم) كيف حاول الشيطان أن يزعج رجلاً ذا فضيلة وجهاد نسكي؛ لكن الرب الإله قد حفظه بنعمته، ولم تتأثر روح النسك، بل تعززت في محبتها للرب. هذه المحبة ازدادت جيشاناً، ومع ارتفاع الغيرة مجّد الشيخ الله