حَبانا الله بالكثير من النعم والمواهب بمسحة الروح القدس التي بها خُتمنا. «لكن الذي يثبّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون الروح في قلوبنا» (٢كورنثوس ١: ٢١-٢٢). هذه المواهب هي لنموّ الإنسان روحيًّا لكي يصل إلى ملء قامة المسيح (أفسس ٤: ١٣)، ولتسخيرها في خدمة جماعة المؤمنين ونموّها في حياة الملكوت. من هنا تأخذ الأمانة حيّزًا كبيرًا في حياة المؤمن. التي دافعها ومحرّكها أوّلًا وآخرًا المحبّة، فهي الوجه الساطع للمحبّة الصادقة والمُخلِصة لله «إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبّتي كما أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبّته» (يوحنّا ١٥: ١٠). لا ريب في أنّ الأمانة هي الشيمة المرافقة والحافظة لكلّ الفضائل التي يسعى الإنسان المسيحيّ إلى تحقيقها، فلا خدمة من دون أمانة، لا عطاء من دون أمانة، لا تعليم من دون أمانة، لا تضحية من دون أمانة، لا شهادة من دون أمانة…. والشهداء الفتية المكّابيّون السبعة مع أمّهم صلموني ومعلّمهم لعازر، الذين عاشوا في القرن الثاني ق.م.، في فترة حكم السلوقيّين للشرق الذين حاولوا بالقوّة إدخال العادات اليونانيّة على الأمّة اليهوديّة مانعين إيّاهم من ممارسة شعائرهم كتقدمة الذبائح في الهيكل والختان وقراءة التوراة، وإجبارهم على عبادة الآلهة الوثنيّة، واجهوا ببسالة طغيان السلوقيّين وجبروتهم، محافظين على شرائع آبائهم، غير خائفين ممّن يقتل الجسد (متّى ١٠: ٢٨) فقدّموا حياتهم على مذبح الشهادة، ورغم أنّهم عاشوا قبل تجسّد الربّ يسوع اعتبرتهم الكنيسة شهداء له لأمانتهم لله وزهدهم بالأمجاد العالميّة.
الصعوبات التي واجهت المسيحيّين منذ انطلاقة الكنيسة يوم العنصرة، هي هي في كلّ العصور، كما اليوم الحاضر، اضطهادات، أوبئة، هرطقات، انشقاقات داخل الكنيسة…. لكن تبقى الصعوبة الكبرى هي في صراعنا ومنازلتنا مع فكر هذا العالم وشهواته. «لأنّ كلّ ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظّم المعيشة ليس من الآب بل من العالم» (١يوحنّا ٢: ١٦)، بحيث عرف العالم المعاصر، الذي أدرك نقطة ضعف الإنسان أي حبّه لنفسه وميله إلى أن يكون مركز العالم فكلّ هوى وشهوة ضارّة منبعها حبّ الذات، كيف يسوّق لهذه الشهوات بشتّى الطرائق والوسائل، موجّهًا العقول والقلوب إلى تقبّلها على أنّها أمر طبيعيّ، فيقع الإنسان في ما سمّاه الآباء «اللاحسّ» أو موت الضمير، وتاليًا يسمح بكلّ شيء لنفسه منجرًّا إلى الانغماس في الموبقات من دون أن يرفّ له جفنٌ. فيصبح الباطل هو الحقّ، لذلك ليس غريبًا أن نرى تصرّفات غريبة وممقوتة صادرة من البعض: من ظلم، وحقد، واستغلال صعوبات الناس في الأزمات طمعًا في تحقيق مكاسب سريعة، لو على حساب الإيمان. فأصبح الآخر خادمًا لشهوات المستغلِّين وطموحاتهم، الذين أمسَوا بشكل وبآخر قاتلين لإخوتهم بإساءة استخدام المقدّرات والإمكانيّات والطاقات التي يملكونها.
الظروف الصعبة الحاضرة تحاصرنا وتتحدّى ثباتنا في إيماننا، ومحبّتنا لله. السؤال هو كيف نحافظ على محبّتنا الأولى (رؤيا ٢: ٤). يحثّنا الرسول بولس على إعادة تقويم مسيرتنا بكمالها: «اسهروا. أثبتُوا في الإيمان. كونُوا رجالًا. تَقَوُّوا» (١كورنثوس ١٦: ١٣). السهر واليقظة هما المثابرة على توطيد علاقتنا بالربّ يسوع القائمة على الصلاة، وقراءة الكلمة الإلهيّة، والمساهمة في القدسات، والالتزام بالأصوام. واليوم نلج مسيرة صوم السيّدة الذي هو مجالٌ لإعادة إحياء الفضائل، ودافعٌ للسلوك على منهج والدة الإله في أمانتها وطهارتها. هكذا نكون في جوّ روحيّ يرسّخ فينا الأمانة الدائمة لله، يُعطينا عزيمةً وثباتًا ورجولةً وإقدامًا لمواجهة أهوال هذا الدهر مهما كانت صعبةً، وضاغطةً، ومهدِّدةً لنا بالخوف والقلق من الغد، والموت…
اليقظة تُوجب على الإنسان أن يكون أمينًا تجاه الله، وتجاه نفسه، وتجاه الآخرين. الإنسان الأمين في علاقته مع الله، لا يقبل إطلاقًا ما يفصله عنه (رومية ٨: ٣٨-٣٩). لا يتهاون ولا يتخاذل، ولا يقبل السير في طرق ملتوية، بل يفحص كلّ كلمة، وكلّ تصرّف واضعًا إيّاهما تحت مجهر كلمة الله ومشيئته، مراقبًا نموّه الروحيّ من جهة حُسن استخدام المواهب الممنوحة له من الروح القدس. وفي الوقت عينه يسعى بكلّ طاقته من أجل خلاص الآخرين ومشجّعًا لهم ومساعدًا إيّاهم، في حال تعثّروا روحيًّا، على المضي قُدُمًا في طريق الملكوت.
تبدأ أمانة الإنسان بالأمور الصغيرة والله يباركه على نيّته الحسنة، ويفيض عليه بالبركات والنعم. فمن كان أمينًا على القليل يقيمه الله على الكثير (متّى ٢٥: ٢١).
Raiati Archives