مَن اختار أن ينمو في الله دونه عقبات ثلاث يسطّرها يسوع في نصّ الإنجيل وتتناول عالمنا الخارجيّ المحيط بنا، ثمّ عالمنا الداخليّ، وأخيرًا كيفيّة عيشنا حياتنا اليوميّة وما تعكسه من أهداف وضعناها لأنفسنا.
العقبة الأولى أمام نموّنا في الله تكمن في العالم الخارجيّ المحيط بنا، الخليقة نفسها، وذلك عندما يغيب عنّا أنّ اللهَ علّةُ وجودها أو نفقد إيماننا بعنايته بها ومحبّته لنا. هذا يحصل لنا كلّما انهمكنا بما هو منظور ومحسوس، وغفلنا عن خالق الكلّ وإدراك قصده الصالح عبر خليقته ورغبته في بناء علاقة معنا تستمرّ إلى الأبد. بيسوع نكتشف كيف نتخطّى هذه العقبة. فالكون كلّه مكان لقاء يضرب فيه الله موعدًا مع الإنسان ليكوّن معه حياة شركة، وهو أرسل ابنه الوحيد لتحقيق هذا اللقاء ونسج هذه الشركة. بتجسّده وضع عدسة محبّة الله وعنايته وصلاحه على ناظرَينا، فصار ممكنًا أن نعيش في حضرة الله ونختبر مشيئته الخيّرة في كلّ شيء، من دون أن يضرّنا شيء في الخليقة، أو يفصلنا عن رؤية الله ومحبّته، أو يمنعنا عن تسبيحه على تدبيره وعنايته. أَليس في هذا يكمن معنى الآية: «إنْ كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرًا» (متّى ٦: ٢٢)؟
أمّا العقبة الثانية فتتمثّل في انجذابنا الداخليّ إلى العالم ومغرياته. فقد يجذبنا جمال العالم أو غناه، أو تغرينا ملكيّة الأشياء أو الاستحواذ على السلطة أو التألّق في المجد الباطل، فنصير خدّامًا، من حيث ندري أو لا ندري، للمادّة التي وُضعت أصلًا في خدمتنا، ويتملّكنا الشعور بأنّنا هكذا نحقّق ذواتنا، أو نصير معتبَرين أو منظورين في عيون أترابنا. يخال لنا أنّنا نحافظ على كرامتنا إذا ما تركنا هذه الجاذبيّة تسيطر علينا واتّخذناها أساسًا لطريقة تفكيرنا ووضعناها غاية لحياتنا. أوضح لنا يسوع أين تكمن كرامة الإنسان المؤمن به، فهي ليست في العالم ومغرياته، بل في الكرامة التي يعطيها الله إيّاها والتي تقيمه سيّدًا على الخليقة عوضًا من أن تسود هي عليه. لذا وجُب علينا أن نختار بحزم وإصرار أيّة كرامة نريد وأيّ سيّد نخدم. أَلعلّ هذا ما قصده الربّ بقوله: «لا يقدر أحد على أن يخدم سيّدَين لأنّه إمّا أن يُبغض الواحد ويحبّ الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر» (متّى ٦: ٢٤)؟
وأخيرًا تظهر العقبة الثالثة بداعي تأمين معيشتنا اليوميّة وتأمين حاجاتها الأساسيّة. لا شكّ في أنّ هذا الأمر يفترض منّا وضع جملة أهداف لحياتنا وتوفير الطاقة والوقت والقيام بالجهد اللازم في سبيل بلوغها، والتي يُفترض بها أن تؤمّن معيشتنا. فـمَن كان العالم بالنسبة إليه مكان لقاء بالله وفرصة لتحقيق الشركة معه، ومَن تحرّر من جاذبيّة العالم والكرامة الزائفة التي يوهمه بها، بات عليه أن ينتبه إلى كيفيّة ترجمة هذه المكتسبات في حياته اليوميّة حتّى لا يصير بحثه عن القوت اليوميّ وتأمين مستلزمات المعيشة سببًا ليخسرها، ويفقد ما تؤمّنه له من حزام أمان وبصيرة روحيّة وصلة حيّة بالله ورباط وحدة وسلام بجسد المسيح. فالعين النيّرة وخدمة الله تنزعان عنّا القلق والاضطراب والخوف، وتغذّيان النفس يوميًّا بحضور الله المدبّر كلّ شيء للمؤمنين به والمتّكلين عليه. هؤلاء لا ينسون، مهما ساءت الظروف وضاقت بهم الأحوال، أن يرفعوا الصلاة لله وشكره وطلب معونته، عالمين أنّه سيّد الحياة والموت ومخلّص نفوس المؤمنين به. هكذا يواجهون أمور معيشتهم وسبل تأمينها بأن يضعوا معيّتهم مع الله والسلام الذي به والفرح بعطيّة الحياة مبدأ في كلّ شيء، في قناعة راسخة بعنايته ومحبّته وتدبيره شؤون الخليقة التي أعطاها الوجود من أجل كمال الإنسان الذي خلقه. فاكتساب هذه الحكمة هو ما ينبّهنا إليه يسوع في الإنجيل بقوله: «فلا تهتمّوا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس؟ فإنّ هذه كلّها تطلبها الأمم. لأنّ أباكم السماويّ يعلم أنّكم تحتاجون إلى هذه كلّها. لكن اطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرّه وهذه كلّها تزاد لكم» (متّى ٦: ٣١-٣٣).
هكذا يمكن أن تنقشع بصيرتنا الروحيّة، خصوصًا في ظروف الضيق والأسى، وتتمخّض نفوسنا وأحشاؤنا بروح الله الذي يقودنا إلى مراعي الخلاص بأن يكون وجودنا علامة لملكوته، أي حضورًا في نفوسنا على محبّة الله وعنايته، وشهادة على قوّة الإيمان وحكمة الله في الذين يؤمنون به، وواحة اطمئنان وسلام وسط اضطراب العالم وغليانه. هكذا يمكّننا يسوع من أن نسير في نوره ليصير إيماننا به نورًا للعالم وعلامة على عناية الآب السماويّ به. أَليس في هذا تكمن المفارقة بين طريقة حياتنا وتفكيرنا وتلك التي تميّز «الأمم» وتطلبها؟ فليغلبْ يا ربّ نورك فينا، يومًا بعد يوم، واعطِنا أن نعيش بحسب حكمتك، فنتعلّمها ونعين سوانا على تبنّيها في معيشتهم وكفاحهم اليوميّ من أجل أن يتمجّد اسمك ويتمجّد المؤمنون بك.
+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: رومية 1:5-10
يا إخوة اذ قد بُرّرنا بالإيمان فلنا سلام مع الله بربنا يسوع الـمسيح الذي به حصل ايضا لنا الدخول بالإيمان الى هذه النعمة التي نحن فيها مُقيمون ومفتخـرون في رجاء مجد الله. وليس هـذا فقط بل ايضا نفتخر بالشدائد عـالمين أن الشدة تنشئ الصبر، والصبر ينشئ الامتحان، والامتحان الرجاء، والرجاء لا يُخزي، لأن محبة الله قد أُفيضت في قلوبنـا بالـروح القـدس الذي أُعطي لنا، لأن المسيح اذ كنا بعـد ضعـفاء مات في الأوان عن المنافقين، ولا يكاد أحد يموت عن بارّ. فلعلّ أحدا يُقدم على أن يموت عن صالح؟ امـا الله فيدلّ على محبته لنا بأنه، اذ كنّا خطأة بعد، مات المسيح عنّا. فبالأحرى كثيرا إذ قد بُرّرنا بدمه نخلُـص به من الغـضب، لأنا إذا كنّا قد صولحنا مع الله بموت ابنـه ونحن أعداء، فبالأحرى كثيرا نخلُص بحياته ونحن مُصالَحون.
الإنجيل: متى 22:6-33
قال الرب: سراج الجسد العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلما. واذا كان النور الذي فيـك ظلاما فالظلام كم يكون؟ لا يستطيع أحد أن يعبد ربـّين لأنه، إما أن يُبغض الواحد ويحبّ الآخر، او يُلازم الواحد ويرذل الآخر. لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال. فلهذا أقول لكم لا تهتمّوا لأنفسكم بما تأكـلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست النفس أفضل من الطعام والجسد أفضل مـن اللباس؟ انظروا الى طيور السمـاء فإنها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبـوكم السماويّ يقـوتها. أفلستـم أنتـم أفضل منها؟ ومَن منكم اذا اهتمَّ يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة؟ ولماذا تهتمّون باللباس؟ اعتبِروا زنابق الحقل كيف تنمو. إنها لا تتعـب ولا تغزل. وأنا اقول لكم ان سليمان نفسه في كل مجده لم يلبـس كواحدة منها. فإذا كان عشب الحقل الذي يـوجد اليـوم وفي غـد يُطرح في التنّور يُلبسه الله هكذا، أفلا يُلبسكم بالأحرى أنتم يا قليلي الإيمان؟ فلا تهتمّوا قائلين: ماذا نأكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس؟
فإن هذا كلّه تطلبه الأُمم، لأن أباكم السماويّ يعلم أنكم تحتاجون الى هذا كله. فاطلبـوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذا كلّه يُزاد لكم
Raiati Archives