التجربة الكبرى في الزمن الصعب هي أن ينزع المرء إلى الفرديّة، فيما الشرّ يستفحل والشرّير يسعى إلى عزلنا وفصلنا عن الجماعة ليفترسنا. من المشاهد المعبّرة في الطبيعة، ذاك المشهد على فضائيّة national geographic الذي فيه نرى الذئب يهاجم القطيع. الذي يفعله الذئب هو أنّه يسعى إلى الاقتراب على اللسّ من وراء القطيع، ثمّ يداهم مستفحلًا فيتشتّت القطيع كلّه، ليرصد عندها العنصر الذي انفرد ويفترسه. هذا في حين أنّ الذي التزم الالتحام بالقطيع، يكون قد نجا من هجمة الذئب وغلب الشرّ.
ومن المؤكّد أنّ ما عزّز الفرديّة وخطرها في هذا الزمن الصعب في بلادنا هو وباء كورونا. إذ حال دون أن يلتقي الأخوة عن قرب ليواسي بعضهم بعضًا في هذه الشدّة التي يعانيها البلد. لطالما كانت روح الجماعة هي ميزة المجتمع الشرقيّ ومصدر القوّة الطبيعيّ للجماعة المسيحيّة الشرقيّة. ولطالما كان أهل الشرق يدعون من أجل الجماعات المسيحيّة في الغرب، كي يحميها الربّ من شرّ الفرديّة القاتلة اقتناعًا منهم بأنّ حياتهم كجماعة هي ميزة طيّبة، لا بل مصدر قوّة في حياتهم على جميع الأصعدة.
في هذا الزمن الذي نتهيّأ فيه لعيد العنصرة، تعيش الجماعة المؤمنة على طلب الربّ إلى التلاميذ أن يبقوا مجتمعين، واعدًا إيّاهم بالروح المعزّي الذي سيرسله الآب باسم الرب يسوع، والروح سيعلّم التلاميذ كلّ شيء ويذكّرهم بكلّ ما قاله الربّ لهم (يوحنّا ١٤:٢٦). من هنا، علينا كجماعة أن نحافظ على رابط اللقاء. هذا يليق بحياتنا كمسيحيّين مؤمنين لكي نعلن للربّ ولأنفسنا هويّتنا كجماعة متّحدة وكشعبه الخاصّ، ولنعلن إيماننا الأكيد بأنّه لن يتركنا في الصعاب.
على صعيد الحياة الكنسيّة، من المشاهدات لا بل الحقائق التي تجسّد هذا الواقع هو التقاء الأخوة معًا لاسيّما في الاجتماع الإفخارستيّ. والاجتماع الإفخارستيّ هو النبع والمصبّ لكلّ الاجتماعات الأخرى في الرعيّة، على مختلف مستويات الأعمار فيها التي لطالما حمت الفرد الذي يشارك فيها. هذه الاجتماعات سمحت للفرد المشارك بأن يَزين قلبه على ميزان محبّة الأخوة، ويشدّد ذاك القلب عندما تثقّل عليه الدنيا والظروف مثل الظرف الذي نمرّ فيه، فضلًا عن التعاضد والمساندة المادّيّة حيثما أمكن وبقدر ما أمكن، على قاعدة أنّ الشمعة التي تعطي من نورها لا تخسر من ذاك النور.
في ظلّ تزايد نسبة من تلقّوا اللقاح ضدّ الفيروس المستجدّ أو من كوّنوا مناعةً بفعل الإصابة، نرجو أن نكون أوشكنا أن نكوِّن ما ينسجم مع هذا النصّ من تسمية نعني به «مناعة القطيع». أمام هذا الواقع، وإذ يشفع بنا من غادرونا إلى حضن الآب بفعل هذا الوباء، علينا إكرامًا لانتصار هؤلاء الأحبّة على الموت، أن نؤكّد انتصارنا على الفرديّة التي سعى هذا الوباء إلى أن يعزّزها، لأنّ هذا «التدجين على الفرديّة» يروق للشرّير لاقتناعه بأّنّه قاتل للروح أكثر منه للجسد.
وعلى هذا الرجاء، سنعود إلى اللقاء الحيّ والمحيي في الاجتماع الإفخارستيّ، وفي سائر الأنشطة التي لا شكّ في أنّها تشفي من ذيول ما عانيناه في زمن الحجر، وتعطي الرجاء والسند في ظلّ ما نعانيه من ضائقة اجتماعيّة واقتصاديّة.
هذا كلّه لنقول للعالم ونحن في أحد آباء المجمع المسكونيّ الأوّل، بأنّنا أبناء الآب وأحبّة المسيح ومسكن الروح، وإنّ عزّتنا وكرامتنا نأخذها من العزّة والكرامة التي نحياها للثالوث القدّوس المتساوي في الجوهر كلّ حينٍ، الآن وكلّ آن وإلى دهر الداهرين. آمين.
Raiati Archives