العمى حجاب أوّل حرم الأعمى من الرؤية. دامت هذه المعاناة منذ مولده إلى أن التقاه المسيح. ساعتها بان القصد منها، ألا وهو «أن تظهر أعمال الله فيه» (يوحنّا ٩: ٣). سترتفع الحجب عنه رويدًا رويدًا في حياته، ولربّما في حياتنا، إن استعدنا البصر والفهم والإيمان.
سؤال التلاميذ حول السبب الكامن وراء عماه حجاب ثانٍ أسدله هؤلاء على الأعمى. هذا وفّر الفرصة ليسوع لينطلق إلى أبعد من السؤال فيكشف لنا عن طبيعة عمله في العالم، وعن كونه النور الذي يضيء لنا فيه (يوحنّا ٩: ٤ و٥)، عسانا نتعلّم أن نرى قصده في حياتنا فنمجّده.
الطين حجاب ثالث زاد به يسوع عمى الأعمى عندما طلاه به. هذا دام حتّى ذهب إلى بركة سلوام فاغتسل وأبصر (يوحنّا ٩: ٦). لم يحجب عنّا هذا الأمر كيف كان الأعمى طيّعًا بين يدَي شافيه، وذا ثقة وطاعة وهمّة تفصح عن مكنوناته الداخليّة الفريدة، وتفضح قصورنا وعجزنا في حالات أقلّ صعوبة منه.
تساؤل الجيران والمعارف حجاب رابع وضعه هؤلاء على شخص الأعمى منذ شفائه، حتّى شكّ البعض في هويّته (يوحنّا ٩: ٩). فكانت السانحة ليقدّم الأعمى شهادة شخصيّة عمّا حصل ويستعيد مجرى الأحداث فينطلق إلى ما هو كامن خلفها وفي حقيقتها.
تواري يسوع في الهيكل حجاب خامس وضعه يسوع في علاقته مع الأعمى. دامت هذه المعاناة طيلة فترة تحقيق الفرّيسيّين مع الأعمى وحتّى صدور الحكم بحقّه. ساعدنا الأعمى على أن نتعلّم منه أن نقرأ معنى الأحداث في سياق عمل الله فأكّد أنّ الشافي «نبيّ» (يوحنّا ٩: ١٧).
صمتُ والدَي الأعمى حجاب سادس أضافاه إلى معاناة ابنهما. آثرا حجب الحقيقة عن سائليها خوفًا من العقاب الذي كان يفترضه البوح بها (يوحنّا ٩: ٢٢). بالفعل، ظهر لنا ابنهما «كامل السنّ» كما قالا (يوحنّا ٩: ٢٣)، ليس فقط بحسب الجسد، بل وبحسب روح الله.
العزلة الشاملة حجاب سابع فرضه على الأعمى واقع وجوده وحيدًا في مواجهة محيطه من جرّاء استعادته الرؤية يوم سبت (يوحنّا ٩: ١٦). هذا الأمر الواقع أظهر لنا قوّةَ شكيمة الأعمى الذي لم يرضخ لغير الحقّ، وتفاعلَه السويّ مع التحدّيات التي تزداد صعوبة أمامه وتُحكم عليه القبضة لتحرمه رؤية الحقيقة.
الاحتكام إلى حقيقة الله حجاب ثامن استخدمه الفرّيسيّون في استنطاقهم الأعمى. ساعتها خلع الأعمى الحجاب عن منطق هؤلاء ومنطلقاتهم بأن أعطانا المفتاح لفهم الحقيقة: «نعلم أنّ الله لا يسمع للخطأة. ولكن إن كان أحد يتّقي الله ويفعل مشيئته، فلهذا يسمع»، وإعلانها جهارًا: «لو لم يكن هذا من الله لم يقدر على أن يفعل شيئًا» (يوحنّا ٩: ٣١ و٣٣). حاولوا أن يُخرجوا الله من المعادلة، فأعادهم الأعمى إلى حقيقة الصلة الحيّة القائمة بين الله والإنسان.
الطرد من المجمع حجاب تاسع وضعه الفرّيسيّون على هذه القضيّة بإصدارهم الحكم النهائيّ بحقّ الأعمى (يوحنّا ٩: ٣٤). خروج الأعمى إلى خارج لم يضعه في مهبّ الريح، ولا سبّب له انتكاسة روحيّة. فعوضًا من الفراغ الذي قادوه إليه، وجد هو الملء في المعنى الذي أعطاه يسوع منذ البدء حول قصد الله منه. بقي هو في المعنى، أمّا هؤلاء فصاروا خارجه!
ساعتها رفع يسوع الحجاب عن معرفته، فدنا من الأعمى مرّة أخرى وعرّفه بنفسه. غرابة يسوع في طريقة شفاء الأعمى بطليه بالطين ثمَّ تواريه عنه، عوضًا من أن تُبعد الأعمى عنه، قرّبته منه، وزادته تحفّزًا روحيًّا واستقامة إيمانيّة ووعيًا صادقًا. هكذا نزع عنّا الأعمى الحُجُبَ التي تسدل علينا رؤية حقيقة عمل الله في واقعنا، فيفضح تارّةً رغبتنا في السير في ظلام عدم فهم إرادة الله في هذا الواقع، وتارّةً أخرى غياب إعطائنا المجد لله من قلوبنا لأجلها، أو استسلامنا، الواعي وغير الواعي، للحُجُب التي توضع في طريق إيماننا بالمسيح واعترافنا الحيّ بعمله وسجودنا القلبيّ له، على غرار ما فعل الأعمى (يوحنّا ٩: ٣٨). هلّا أعطينا مجدًا لله، مثل الأعمى، وعملنا أعمال الله ما دام نهار، مثل يسوع؟ هلّا شهدنا إذًا بأنّ يسوع هو نور العالم ونورنا بآن كلّ يوم؟
+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: أعمال الرسل ١٦: ١٦-٣٤
في تلك الأيّام، فيما نحن الرسل منطلقون إلى الصلاة، استقبلتْنا جاريةٌ بها روح عرافة، وكانت تُكسِب مواليها كسبًا جزيلًا بعرافتها. فطفقت تمشي في إثر بولس وإثرنا وتصيح قائلة: هؤلاء الرجال هم عبيدُ الله العليّ وهم يُبشّرونكم بطريق الخلاص. وصنعتْ ذلك أيّامًا كثيرة، فتضجّر بولس والتفت إلى الروح وقال: إنّي آمرُكَ باسم يسوع المسيح بأن تخرج منها، فخرج في تلك الساعة. فلمّا رأى مواليها أنّه قد خرج رجاء مكسبهم قبضوا على بولس وسيلا وجرّوهما إلى السوق عند الحُكّام، وقدّموهما إلى الولاة قائلين: إنّ هذين الرجُلين يُبلبلان مدينتنا وهما يهوديّان، ويُناديان بعادات لا يجوز لنا قبولها ولا العمل بها إذ نحن رومانيّون. فقام عليهما الجمع معًا ومزّق الولاةُ ثيابهما وأمروا بأن يُضربا بالعصيّ. ولمّا أَثخنوهما بالجراح أَلقوهما في السجن وأَوصَوا السجّان بأن يحرسهما بضبط. وهو إذ أُوصي بمثل تلك الوصيّة ألقاهما في السجن الداخليّ وضبط أرجلهما في المقطرة. وعند نصف الليل كان بولس وسيلا يُصلّيان ويسبّحان الله والمحبوسون يسمعونهما، فحدثت بغتة زلزلة عظيمة حتّى تزعزعت أُسس السجن، فانفتحت في الحال الأبواب كلّها وانفكَّت قيود الجميع. فلمّا استيقظ السجّان ورأى أبواب السجن أنّها مفتوحة استلّ السيف وهمَّ بأن يقتل نفسه لظنّه أنّ المحبوسين قد هربوا. فناداه بولس بصوت عال قائلًا: لا تعمل بنفسك سوءًا فإنّا جميعنا ههنا. فطلب مصباحًا ووثب إلى داخل وخرَّ لبولس وسيلا وهو مرتعد. ثمّ خرج بهما وقال: يا سيّديّ، ماذا ينبغي لي أن أَصنع لكي أَخْلُص؟ فقالا: آمنْ بالربّ يسوع المسيح فتخلُص أنت وأهل بيتك. وكلّماه هو وجميع من في بيته بكلمة الربّ. فأخذهما في تلك الساعة من الليل وغسل جراحهما واعتمد من وقته هو وذووه أجمعون. ثمّ أَصعدهما إلى بيته وقدّم لهما مائدة وابتهج مع جميع أهل بيته إذ كان قد آمن بالله.
الإنجيل: يوحنّا ٩: ١-٣٨
في ذلك الزمان فيما يسوع مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ مولده. فسأله تلاميذه قائلين: يا ربّ، من أخطأ أهذا أم أبواه حتّى وُلد أعمى؟ أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه. ينبغي لي أن أَعمل أعمال الذي أَرسلني ما دام نهارٌ، يأتي ليل حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل. ما دمتُ في العالم فأنا نور العالم. قال هذا وتفل على الأرض وصنع من تفلته طينًا وطلى بالطين عينَي الأعمى وقال له: اذهبْ واغتسلْ في بركة سِلوام (الذي تفسيره المرسَل). فمضى واغتسل وعاد بصيرًا. فالجيران والذين كانوا يرونه من قبل أنّه كان أعمى قالوا: أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي؟ فقال بعضهم: هذا هو، وآخرون قالوا: إنّه يشبهه. وأمّا هو فكان يقول: إنّي أنا هو. فقالوا له: كيف انفتحتْ عيناك؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يُقال له يسوع صنع طينًا وطلى عينيّ، وقال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل، فمضيتُ واغتسلتُ فأبصرتُ. فقالوا له: أين ذاك؟ فقال لهم: لا أَعلم. فأَتوا به، أي بالذي كان قبلًا أعمى، إلى الفرّيسيّين. وكان حين صنع يسوع الطين وفتح عينيه يوم سبتٍ. فسأله الفرّيسيّون أيضًا كيف أبصر، فقال لهم: جعل على عينيّ طينًا ثمّ اغتسلتُ فأنا الآن أُبصر. فقال قوم من الفرّيسيّين: هذا الإنسان ليس من الله لأنّه لا يحفظ السبت. آخرون قالوا: كيف يقدر إنسان خاطئ على أن يعمل مثل هذه الآيات؟ فوقع بينهم شقاق. فقالوا أيضًا للأعمى: ماذا تقول أنت عنه من حيث إنّه فتح عينيك؟ فقال: إنّه نبيّ. ولم يصدّق اليهود عنه أنّه كان أعمى فأَبصر حتّى دعَوا أبوَي الذي أَبصر وسألوهما قائلين: أهذا هو ابنُكما الذي تقولان إنّه وُلد أعمى، فكيف أبصر الآن؟ أجابهم أبواه وقالا: نحن نعلم أنّ هذا ولدنا وأنّه وُلد أعمى، وأمّا كيف أَبصرَ الآن فلا نعلم، أو من فتح عينيه فنحن لا نعلم، هو كامل السنّ فاسألوه فهو يتكلّم عن نفسه. قال أبواه هذا لأنّهما كانا يخافان من اليهود لأنّ اليهود كانوا قد تعاهدوا أنّه إن اعترف أحد بأنّه المسيح يُخرَج من المجمع. فلذلك قال أبواه هو كامل السنّ فاسألوه. فدَعَوا ثانيةً الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له: أَعطِ مجدًا لله، فإنّا نَعلم أنّ هذا الإنسان خاطئ. فأجاب ذاك وقال: أخاطئ هو لا أعلم، إنّما أَعلم شيئًا واحدًا أنّي كنتُ أعمى والآن أنا أُبصر. فقالوا له أيضًا: ماذا صنع بك؟ كيف فتح عينيك؟ أجابهم قد أَخبرتكم فلم تسمعوا، فماذا تريدون أن تسمعوا أيضًا؟ ألعلّكم أنتم أيضًا تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟ فشتموه وقالوا له: أنت تلميذُ ذاك. وأمّا نحن فإنّا تلاميذُ موسى ونحن نَعلم أنّ الله قد كلّم موسى. فأمّا هذا فلا نعلم من أين هو. أجاب الرجل وقال لهم: إنّ في هذا عَجَبًا أنّكم ما
تعلمون من أين هو وقد فتح عينيّ، ونحن نعلم أنّ الله لا يَسمع للخطأة، ولكن إذا أحدٌ اتّقى الله وعمل مشيئته فله يستجيب. منذ الدهر لم يُسمع أنّ أحدًا فتح عيني مولودٍ أعمى. فلو لم يكن هذا من الله لم يقدر على أن يفعل شيئًا. أجابوه وقالوا له: إنّك في الخطايا قد وُلدتَ بجملتك. أفأنت تُعلّمنا؟ فأَخرجوه خارجًا. وسمع يسوع أنّهم أخرجوه خارجًا، فوجده وقال له: أتؤمن أنت بابن الله؟ فأجاب ذاك وقال: فمن هو يا سيّد لأؤمن به؟ فقال له يسوع: قد رأيتَه، والذي يتكلّم معك هو هو. فقال له: قد آمنتُ يا ربّ، وسجد له.