«لم نكن نعلمُ ما إذا كنَّا في السماء، أم على الأرض»؛ هذا ما قاله مبعوثو القدّيس فلاديمير، أمير كييف حينها، حين أرادوا أن يصفوا له ما اختبروه في الخدمة الإلهيّة في كنيسة «آجيا صوفيا».
ما اختبره هؤلاء، يقودُنا إلى التأمّل بالأبعاد الأربعة للأرثوذكسيّة، وهي في الحقيقة نظراتٌ أربع نحو إيمان الكنيسة الأرثوذكسيّة، وممارستها.
البُعدان الأوَّلان، هما البُعدان العموديّان؛ أي البُعد السماويّ – الإلهيّ أوّلًا، وهو سعيُ الكنيسة إلى عيش خبرة الملكوت على الأرض، عبر الاشتراك بما «يحصل في الآن عينه في السماء»؛ فــ «مباركةٌ هي مملكةُ الآب والابن والروح القدس»، هي إعلان دخولنا الملكوت؛ أمّا صلاتنا «ومع هذه القوّات السماويَّة، نهتف نحن أيضًا…»، فهي إعلان اشتراكِنا في حياة السماء.
أمّا البُعد العموديّ الآخر، فهو البُعدُ الأرضيّ – البشريّ. وهو الإنسانُ وتقدماتُه، أي قرابينُه ومساعيه، في سبيل رَفْعِ الإنسان بجملته إلى «فوق»، «لنرفَعْ قلوبَنا إلى فوق». هو عَيشُنا اختبار تلميذَي عمواس، ونحن سائرون في طريق العمر هذا؛ فتستحيل قلوبنا نارًا متَّقدة بكلمة الربّ وحضوره.
أمّا البُعدان الأفقيّان، فهما، أوّلًا، الماضي، الذي منه تنطلق الكنيسة الأرثوذكسيَّة؛ وهو التقليد الحيّ الذي سلَّمه الربُّ يسوعُ لرسله القدّيسين بدءًا، وبدورهم سلَّموه للكنيسة جمعاء. هو «الإناء» الذي يحوي كلَّ إيمان الكنيسة وممارساتها وعبادتها، والتي ما زالت تحفظه وتحافظ عليه، وتحياه إلى اليوم.
الكنيسة، في عبادتها، لا تتذكّر وصايا من الماضي، إنّما تحياها اليوم. لا بل «تتذكّر المستقبل»، وهذا هو البُعد الأفقيُّ الثاني، أي ما تدعوه الكنيسة بـ «البُعد الأُخرويّ»، أي كلّ ما يتعلّق بالمجيء الثاني، والدينونة العامّة، والحياة الأبديّة.
وهذا جليٌّ في صلوات كنيستنا، حين نقول في القدّاس الإلهيّ: «وإذ نحن ذاكرون هذه الوصيَّةَ الخلاصيّة، وكلَّ ما جرى من أجلنا: الصليبَ والقبر والقيامة في اليوم الثالث، والصعود الى السماء»؛ هذا كلُّه تحقَّقَ في الماضي؛ «والمجيء الثاني المجيد أيضًا»، هذا ما سيتحقّق في الأزمنة الأخيرة. في الكنيسة الأرثوذكسيّة نعيش بين حضورَين؛ حضورٍ أوّل، تحقَّق بالتجسّد، وحضور ثانٍ سيتحقّق بالمجيء الثاني، «أهِّلني أنْ أَمتلئَ منَ النعيم الذي فيك، لكي وأنا متهلّل، أُعظّم حضورَيك أيُّها الصالح».
هذه الأبعاد الأربعة، تتقاطعُ مثل صليبٍ هنا والآن في قلب الإنسان، لتعمّدَ حاضرَه، وتقدّسَ حياته، بالتوبة.
الأرثوذكسيّة إذًا، استقامةٌ في الإيمان، واستقامةٌ في التمجيد، أي العبادة؛ تاليًا، هي استقامةٌ في الحياة.
المسيحيّ الأرثوذكسيّ، هو الذي يصلِّي كما يؤمن، ويؤمن بما يصلّي، ويعيش ما يؤمن ويصلّي.
لا شكّ في أنّ ثمة تحدّيات جمّة، تقف عائقًا أمام تحقيق هذه الدعوة، وفي سبيل السعي إليها. والخلل الأساس قد يكون في التركيز على جانب أو بُعد واحدٍ من هذه الأبعاد الأربعة؛ فقد ننشغل في البعد السماويّ الإلهيّ، أو قد نحصر اهتمامنا في الأمور الأرضيّة، كالتنظيم والإدارة… وننسى أنّ السماء، بالتجسُّد، حلّت على الأرض، وأنّ الأرض، بالصعود، اتّكأت في السماء. وما دعوتُنا، سوى رَفْعِ الأرض نحو السماء، بالأسرار المقدّسة الممنوحة لنا من فوق.
قد نحصرُ أيضًا نظراتنا في الماضي، أي في ما سلّمه إلينا آباؤنا، ونتغنّى به. فبذلك يستحيل التقليدُ أمرًا ميتًا، لا حياة فيه، ولا اختبارًا.
الأرثوذكسيّة، ببساطة، هي العيشُ في نقطة التقاء الأبعاد كلّها. هي الصليبُ الذي ينقلنا من محدوديّة بشرتنا وضعفنا، إلى كمال النعمة وفعلها الذي يجعلُ الأرضيَّ سماويًّا، والبشريَّ إلهيًّا والمحدودَ كاملًا.