في الأحد الأوّل من الصوم، نودّ أن يستشرف نظرُنا أمداء لا يراها سوى الذين التقوا يسوع حقيقة وتبعوه. هوذا فيلبّس قد التقى يسوع وتبعه ثمّ نادى نثنائيل ليراه بدوره (يوحنّا ١: ٤٣ و٤٦). امتدّ نظره إلى المسيح أوّلًا، ثمّ كان من الطبيعيّ بالنسبة إليه أن يمتدّ نظره بما رآه نحو أخيه. أمّا يسوع فامتدّ نظره إليهما وفاجأهما معًا حينما أعلن لنثنائيل أنّه إنّما رآه منذ كان تحت التينة، وبعدها دعاهما إلى معاينة عجب لا مثيل له: خدمة الملائكة الصاعدين والنازلين على ابن البشر (يوحنّا ١: ٤٨ و٥١)!
أطلّ الله على الإنسان بتجسّد ابنه، وفتح له الباب كي يطلّ عليه بدوره، فوعْدُ الربِّ لتلميذَيه برؤية «السماء مفتوحة» منذ الآن، إنّما يصبّ في هذا المرمى. أمّا السبيل إلى هذه الرؤية فهي التلمذة ليسوع، بحيث يتقن هؤلاء التلاميذ حرفة «النظر» هذه، النظر إلى مقاصد الله من جهة، وإلى كيفيّة تحقيقها في خلاص الإنسان من جهة أخرى. لا بل قلْ حرفة النظر إلى الإله-الإنسان من جهة، والإنسان المخلوق على صورته من جهة أخرى، في صورة واحدة ومشهد واحد: انفتاح أبواب السماء بالأوّل للثاني، أي انفتاح أبواب الشركة مع الله.
امتهان هذه الحرفة يقتضي أن ترى يسوع مخلِّصًا وفاديًا لك، معلِّمًا وسيّدًا لك، بحيث تصرخ مع نثنائيل: «يا معلِّم، أنتَ ابن الله، أنتَ ملك إسرائيل» (يوحنّا ١: ٤٩). ساعتها، تطلب في عمقك أن تحبّه وأن تعمل بحسب وصاياه. ولهذه الحرفة اسم يعرّف عنه أهل الاختصاص بالتوبة، أي أن تنظر أوّلًا إلى داخلك وتنقّي صورة الله فيك والمكسوّة بأوحال الخطيئة، أوحال الانحراف عن قصد الله من جهة تجلّيك ابنًا محبوبًا قائمًا عن يمينه في الأعالي.
امتهان هذه الحرفة يعني أن نلتمس «الطريق والحقّ والحياة» التي في يسوع (يوحنّا ١٤: ٦). إنّه امتحان خياراتنا ومدى تناسبها مع دعوتنا (الطريق)، وامتحان طريقة تحقيق ذواتنا وتمحيصه (الحقّ)، وامتحان مناقبيّتنا في عيش إيماننا وشهادتنا له (الحياة). فاستقامة الرأي والعبادة معًا، واستقامة الرسالة والشهادة معًا، واستقامة المؤمن والجماعة معًا، لا يأتي إلّا بأن نقدّم كنيستنا الأرثوذكسيّة عروسًا نقيّة للمسيح عبر تقديم ذواتنا ذبيحة مرضيّة لله (رومية ١٢: ١).
امتهان هذه الحرفة يعني «خروجنا»، على مثال إبراهيم، إلى المسيح، بناء على دعوة فيلبّس الشهيرة: «تعالَ وانظرْ» (يوحنّا ١: ٤٦)، فلا تبقى أمجاد الماضي متحفًا للزيارة والتعرّف إليها، بل نبتغي مجد الإله الحيّ في أبنائه. فهل يمكن أن يخرج منّا شيء صالح؟ إنّه سؤال نردّده مع نثنائيل حينما أخبره فيلبّس عن المسيح (يوحنّا ١: ٤٦). ولكن سرعان ما نجد الجواب: باتت الناصرة هي كلّ جرن معموديّة تُخرِّجُ مؤمنين يبذلون ذواتهم ويتعهّدون قريبهم وكنيستهم ويشهدون باتّضاع ومحبّة للحقّ. هذا هو تاريخ القدّيسين في الكنيسة، والذي بهم تحقّق، جيلًا بعد جيل، قول الربّ لنثنائيل على خلفيّة رؤيته له تحت التينة: «سوف ترى أعظم من هذا» (يوحنّا ١: ٥٠). هلّا تعلّمنا النظر، فنرى عظائم الله هذه، فنراه هو عبرها، ونرى أخانا في مدى المسيح الذي بذل نفسه من أجله؟
+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: عبرانيّين ١١: ٢٤-٢٦، ٣٢-٤٠
يا إخوة، بالإيمان موسى لما كَبُر أبى أن يُدعى ابنًا لابنة فرعون، مختارًا الشقاء مع شعب الله على التمتّع الوقتيّ بالخطيئة، ومعتبرًا عار المسيح غنى أعظم من كنوز مصر، لأنّه نظر إلى الثواب. وماذا أقول أيضًا؟ إنّه يَضيق بي الوقت إن أَخبرتُ عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء الذين بالإيمان قهروا الممالك، وعمِلوا البِرّ، ونالوا المواعد، وسدّوا أفواه الأسود، وأطفأوا حدّة النار، ونجَوا من حدّ السيف، وتقوّوا من ضعف، وصاروا أشدّاء في الحرب، وكسروا معسكرات الأجانب، وأخذت نساء أمواتهنّ بالقيامة، وعُذّب آخرون بتوتير الأعضاء والضرب، ولم يقبلوا بالنجاة ليحصلوا على قيامة أفضل؛ وآخرون ذاقوا الهُزء والجلد والقيود أيضًا والسجن، ورُجموا ونُشروا وامتُحنوا وماتوا بحدّ السيف، وساحوا في جلود غنم ومعزٍ وهم معوَزون مُضايَقون مجهودون (ولم يكن العالَم مستحقًّا لهم)، وكانوا تائهين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض. فهؤلاء كلّهم، مشهودًا لهم بالإيمان، لم ينالوا الموعد لأنّ الله سبق فنظر لنا شيئًا أفضل: أن لا يَكْمُلوا بدوننا.
الإنجيل: يوحنّا ١: ٤٤-٥٢
في ذلك الزمان أراد يسوع الخروج إلى الجليل، فوجد فيلبّس فقال له: اتبعني. وكان فيلبّس من بيت صيدا، من مدينة أندراوس وبطرس. فوجد فيلبّسُ نثنائيلَ فقال له: إنّ الذي كتَب عنه موسى في الناموس والأنبياء قد وجدناه، وهو يسوع بن يوسف الذي من الناصرة. فقال له نثنائيل: أمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟ فقال له فيلبّس: تعال وانظر. فرأى يسوعُ نثنائيلَ مقبلًا إليه فقال عنه: هوذا إسرائيليّ حقًّا لا غشّ فيه. فقال له نثنائيل: من أين تعرفني؟ أجاب يسوع وقال له: قبْل أن يدعوك فيلبّس، وأنت تحت التينة رأيتُك. أجاب نثنائيل وقال له: يا معلّم، أنت ابنُ الله، أنت مَلِك إسرائيل. أجاب يسوع وقال له: لأنّي قلتُ لك إنّي رأيتُك تحت التينة، آمنتَ؟ إنّك ستُعاين أعظم من هذا. وقال له: الحقّ الحقّ أقول لكم إنّكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر.
الحرفة الجديدة والناصرة الجديدة
والنظرة الجديدة