الإخوة والأبناء الأحباء،
أن نكتب عن الموت عامّة، وخاصة الفجائي في زمن نستعدُّ فيه لعيد الميلاد بكل ما يحمله من أفراح، لَيَبْدو من الوهلة الأولى شيئاً متناقضاً. ولكن كما يقول الكتاب: “كريم بين يدي الرَّبِ موت أبراره”.
وتعلمنا الكنيسة أن ساعة موت القديسين هي ذاتها ساعة ميلادهم في ملكوت السموات، أو لحظة دخولهم الى الحياة الأبدية.
ونحن نعلم أن ساعة ميلاد الإنسان في هذه الحياة هي لحظة دخوله في سر الموت، وبداية لطريقه.
وهنا لا نكتب عن موضوع الموت بشكل عام، بل عن حادثة من حوادثه أو صفة من صفاته، وهي الموت الفجائي.
لقد علمنا أهلنا ونحن في سن الطفولة صلاةً خاصة لا توجد عادة في كتاب الصلوات (السواعي) أو غيره، بل يتناقلها الناس مشافهة، في نهايتها نقول يا رب “لا تموَّتني لا حريق ولا غريق ولا بجانب الطريق، بل موتة هنيَّة وقربانة طريّة، بشفاعات سيدتنا (ستنا) العذراء الدائمة البتولية”.
لا حريق ولا غريق ولا بجانب الطريق هذه كلها ميتات زمنها قصير بحيث لا يتوقعها الإنسان.
وهو ما نصلي الى الله أن يجنّبنا إياها مع الحروب الأهلية والميتات الفجائية.
فلماذا التأكيد بالصلاة على هذه النوعيات من الميتات، بكل تأكيد:
1- ليبعد الله عن الناس كل ألم وضيق ودمار.
2- أن يكون الإنسان مستعداً دائماً لساعة انتقاله الى العالم الآخر حيث تكمِّلُ الحياة مسيرتها بنوع آخر ومستوى أفضل بما لا يقاس.
الموت الفجائي يحرم الإنسان من استدراك ما يكون الإنسان قد فعله من السيِّئات بين توبة وأخرى. ولكي لا يؤخذ وهو غارق في اهتماماته العالمية، يقول لنا القديس يوحنا الدمشقي (القرن الثامن): يأخذ الله الإنسان بالحالة التي يكون عليها.
وأعتقد أن هذا هو السبب الذي جعل الرسل والآباء الرسوليين أن يؤكدوا على وجوب الصلوات أيام الآحاد والمناولة في كل قداس إلهي مهما تكرّر حضور المؤمن للقداس خلال الأسبوع. لكي يوجد الإنسان دائماً ضمن دائرة حضور الله وعنايته ورعايته.
وجاء أنَّهُ في حال امتنع إنسان عن المناولة ثلاثة آحاد متتاليّة بدون عذر مقنع، فبعد التنبيه ثلاثاً يُفصل من الشركة. وكذلك من إمتنع عن حضور القداس ثلاثة آحاد بدون عذر مقنع يُفصل من الجماعة.
وكانت الكنيسة تفرض على القائمين بالكبائر الأربع: إنكار الإيمان – الزنى – القتل – السرقة، عقوبة التوبة مدى الحياة، ولا تريد أن تترك الخاطئ لمصيره بل تهيِّئه للحياة الأبدية، وذلك بالإستعداد والوصول الى المشابهة وهو على هذه الأرض.
لهذا، التهيؤُ دائم والإستعداد واجب. فالإنسان أمام الأبديّة في أية ساعة سحبت منه إمتحان ورقة الحياة عليه أن يسمع النتيجة. لا يعرف متى يستوفي الله منه ما استودعه لديه، ولكن عليه أن يقتدي بأصحاب الوزنات، أي أن يكون مستعداً دائماً للجواب عن حياته، وكذلك عن رجائه إنطلاقاً من هذه الأرض. لا يؤجل ذلك الى أجل معيّن.
يستعد الإنسان دائماً بالعمل الصالح والفكر النزيه والتعاون مع الناس، وسعيه الدائم للإحتكام الى شريعة الله.
ومن الناحية الكنسية، المطالعات الروحية والصلاة أقلها يوم الأحد لتناول الجسد والدم الطاهرين. كذلك بعض الصلوات في البيت وعلى انفراد، مثل قبل الطعام، بعد الطعام، أثناء الخروج من البيت برسم الصليب واستدعاء المعونة الإلهية إلخ.
في مجال العمل. محبة وإحترام وخدمة الناس من خلال العمل، وإلإبتعاد عن الظلم، وسفاسف الأمور.
هل هناك مثل هذه الحياة على الأرض؟ نعم هناك من عاشوا أكثر من ذلك، وصاروا كالملائكة وهم بالجسد، ولا زال هناك الكثيرون في أماكن متفرقة في العالم يعيشون حالة الإستعداد الدائم لملاقاة الله والمثول أمام عرشه، ويعيشون ما يقوله الرسول بولس: “ما أحياه لست أنا أحياه بل المسيح يحيا فيّا”.
الحياة المسيحيّة بحاجة لتقوى ويقظة كي لا يوجد الإنسان في حالة الغفلة فيصدق القول: “أمّا الذي يجده متغافلاً فهو غير مستحقّ”.
بعض الآباء ينامون بثيابهم الرهبانية إستعداداً دائماً للصلاة أولاً، وثانياً لعل دعوتهم للحياة الأبدية تتمَّ في ذلك الوقت، وهروباً من التجارب التي تسببها حالة الإنفلاش الجسدي.
أيها الإخوة والأبناء الأحباء، ليس الموت الفجائي هو المفزع، ولكن المفزع أمرٌ آخر، وهو أن نوجد غير مستعدين بما يتوجب علينا وبالإسم الأعظم الذي دعينا عليه.
وأهم مثل على عدم الإستعداد للقاء الله مَثَلُ الغنيّ الذي أَخصبت أرضه: “…فقال له الله: يا جاهل، في هذه الليلة تؤخذ روحك منك، وهذه التي جمعتها لمن تكون؟”.
لم تبق الكنيسة معموديّة الكبار أيضاً بسبب موت الكثيرين بالأمراض أو الحروب أو لأسباب أخرى من غير أن يتشبهوا بموت المسيح ودفنه وقيامته، فأوجبوا معمودية الجميع وهم بسن مبكرة لأن من كان ينتظر المعموديّة في عمر متقدِّم كان ينتظرها حتى تغفر خطاياه في أي وقت تلقّى المعمودية. ولكن الأخطار العالمية جعلت الكنيسة تتخذ التدبير بعدم تحبيذ معموديّة الكبار، والإبقاء فقط على معمودية الصغار. وكان ذلك تدبيراً رعائياً هدفه وضع الإنسان على طريق الخلاص بيسوع المسيح ولا يفاجئه الموت وهو غريب عن رعيته.
اللهم أعطنا الشجاعة لنستعدّ للقائك يوم نولد من جديد للحياة الأبدية، آمين.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، السنة 14، العدد 50، الأحد 13/12/2015