عظة من الأرشيف
يا إخوة، إنجيل اليوم يذكر مدينةً اسمها ناين، أو نايين. ونايين لم تكن، في الحقيقة، مدينةً بمعنى الكلمة، بل كانت بلدةً صغيرةً، قريبةً من النّاصرة، حيث عاش الرّبّ يسوع حتّى الثّلاثين من عمره، ومن ثمّ انتقل إلى كفرناحوم. وبما أنّ الإنجيل يقول إنّ الرّبّ يسوع كان منطلقًا إلى مدينة نايين، فهذا يعني أنّه كان يقصدها. كما كان يرافقه عددٌ من التّلاميذ، والنّاس. طبعًا، هذا يعني أنّ الرّبّ يسوع رأى ما الّذي يحصل في ناين، وقد ذهب لكي يلتقي الجمهور هناك، تمامًا فيما كان خارجًا من المدينة لكي يدفن شابًّا، ابنًا وحيدًا لأمّه، الّتي كانت أرملة. لماذا، يا ترى، كان الجمهور خارجًا من المدينة؟.
الشّرقيّون، عمومًا، يجعلون مدافنهم بعيدةً عن أماكن سكنهم. فإذا ما أرادوا أن يدفنوا ميتًا، كانوا يدفنونه خارج الأسوار، لا داخلها. عند اليهود، الميّت يُعتَبَر نجسًا. اللّفظة “نجس”، في الأساس، تعني الوسخ. لكن، هنا، للنّجاسة معنى عدم النّقاوة من جهة الشّريعة. في سِفْرَي التّثنية واللاّويّين، هناك كلام على أنّ كلّ مَن يلمس ميتًا يعُتبَر نجسًا، وعليه أنّ يتطّهر وفقًا لترتيباتٍ محدّدة. إذًا، كانوا خارجين من المدينة، لأنّ المدافن كانت خارجها. هناك التقاهم الرّبّ يسوع، عندما قَرُبَ من باب المدينة. هذا، طبعًا، يدلّ على أنّ الرّبّ سيّد الأوقات، أي يجعل الأمور في أوقاتها تمامًا، كما يريدها أن تكون. الصُّدَفُ بين البشر. أمّا عند رّبّك، فلا صدفة، على الإطلاق. حتّى جميع شعور رأس الإنسان محصاة، أيّ إنّ الرّبّ يعرف شعر رأس الإنسان شعرةً شعرةً. أحد المفكّرين الكبار، في القرن العشرين، يقول كلامًا مُعبِّرًا في هذا الخصوص. يقول إنّ الرّبّ لا يلعب بالنّرد. ومن ثمّ، كلّ ما في خليقة الله آتٍ من ترتيب دقيق، ومن فعل خلاص في منتهى الدّقة. عند الشّرقيّين، يُدفَن الميت في اليوم نفسه الّذي يموت فيه. هذا، طبعًا، إذا كان الوقت نهارًا. أمّا إذا كان الوقت مائلاً إلى المساء، فيجري الدّفن في أقرب وقتٍ ممكنٍ من اليوم التّالي. إذًا، نظنّ أنّ هذا الإنسان مات منذ بضع ساعات، ربّما منذ ستّ، أو سبع ساعات. ثمّ إنّ موكب الجنازة كانت تسير فيه والدة المتوفّى. هذا يعني أنّه ليس من الضّروريّ أن تبقى النّساء في البيت، فيما يذهب الرّجال ليدفنوا الميت. أو، ربّما، كانت هذه الأرملة ملتصقة جدًّا بابنها، لأنّ زوجها كان قد توفّي، فلم تطق الانفصال عنه. في كلّ حالٍ، مصيبتها كانت كبيرةً. والأرامل، عمومًا، في إسرائيل، كان وضعهنّ مأسويًّا. إذا توفّي زوج المرأة، وكان غنيًّا؛ كانت، وفقًا، للشّريعة، بحاجةٍ إلى مَن يكفلها، أي مَن يكون قيِّمًا على أرزاقها، وأموالها، ومقتنياتها. طبعًا، الفرّيسيّون، بصورةٍ خاصّة، كانوا يتظاهرون بالتّقوى، بخاصّة متى رغبوا في أن يجري اختيارهم كفلاء للأرامل الغنيّات. وطبعًا، كان الكفيل يُختار من بين النّاس الّذين يُظَنّ أنّهم يخافون الله، ومستقيمون. والفرّيسيّون، متى بلغوا المرام، كانوا، بعامّة، يسرقون الأرامل، ويتركونهنّ في فقرٍ مدقع، أحيانًا. لهذا، كان وضع الأرامل سيّئًا.
إذًا، هذه الأرملة، خرجت من مأساة إلى مأساة، وهي ذاهبة إلى مأساةٍ جديدة. فلمّا رآها الرّبّ، تحنّن عليها، أي إنّه رأى ما في قلبها من ثقل، ومن ألم يفتّت الكبد. تحنّن عليها، وقال لها: “لا تبكي”!. تعرفون أنّ الرّبّ، عندما قيل له إنّ لعازر صديقه مات – وهو كان يعرف ذلك – وأتت مريم ومرتا وتوجّهتا إليه بكلامٍ مؤثّرٍ، يقول النّصّ الكتابيّ: “بكى يسوع”. حين يبكي الرّبّ يسوع، فهذا يعني، أوّلاً، أنّه هو الإله الّذي تجسّد؛ صار إنسانًا بكلّ معنى الكلمة. وفي آنٍ معًا، إذا كان قد بكى، فهذا يعني أنّه في وضع مَن يتّحد بكلّ إنسانٍ. ومن ثمّ، بهذا الاتّحاد، تلقاه شريك كلّ إنسانٍ في آلامه العميقة. نحن، عمومًا، نحسّ مع الآخرين، لكنّ هذا أمر نفسيّ. أمّا الرّبّ يسوع، فكأنّه يدخل إلى عمق أعماق الإنسان، ويوحّد نفسه بآلام كلّ إنسان، بمعاناة كلّ إنسان. لهذا السّبب، بكى الرّبّ عند قبر لعازر. هذا، في الحقيقة، لا فقط لأنّ عواطفه جاشت، كما تجيش عواطف النّاس، بل لانّه، في العمق، دخل في وحدةٍ كيانيّةٍ مع كلّ إنسان. هنا، الرّبّ لم يبكِ. لكنّه شعر، كيانيًّا، بما تعانيه هذه الأرملة، حتّى قال لها: “لا تبكي”؛ لأنّه هو، في قرارة نفسه، كان يبكي!. وهو جاء متجسّدًا، هو ابن الله المتجسّد، الّذي جاء ليحمل أثقال العالمين، ليفتدي البشريّة. لا يمكن أن يكون هناك، لا قبل الرّبّ يسوع ولا بعده، مَن يتّحد بالبشريّة، غيره، والّذين يؤمنون به إيمانًا عميقًا. هؤلاء يعطيهم نعمة روحه القدّوس، حتّى يتّحدوا بالعالم كلّه، من دون أن يكون هناك اتّحادٌ في المستوى المنظور، أو المحسوس، بالضّرورة، إنّما في مستوى الكيان. هذا ممكنٌ، وهذا معطىً لكلّ الّذين يؤمنون بالرّبّ يسوع. فإذا أخلصوا للرّبّ الإله، فالله يعطيهم هذا الاتّحاد بالبشريّة جمعاء. إذًا، الرّبّ يسوع، هنا، اتّحد، عمليًّا، في قلبه، في كيانه، بهذه الأرملة، وبأوجاعها؛ كأنّه يشير إلى البشريّة المترمّلة، المتروكة، المسبيّة، الّذي جاء إليها بمثابة عريس. نحن نتكلّم على الختن، في الأسبوع العظيم: “ها هوذا الختن يأتي في نصف اللّيل”. في نهاية المطاف، الرّبّ الإله يأتي، ليستردّ عروسه، أي البشريّة. والبشريّة ترملّت، لمّا أسلمت ذاتها إلى الخطيئة. إذ ذاك، قتلت الله، في حياتها، باقتبالها الخطيئة، فترمّلت. فكرة التّرمّل، على كلّ حال، فكرةٌ واردة، في العهد القديم، في أكثر من مكانٍ. إذًا، الرّبّ يسوع، هنا، جاء ليستردّ البشريّة المترملّة، عروسًا جديدةً له، في شخص الأرملة وابنها!.
“ودنا، ولمس النّعش”. هذا النّعش، الّذي هو علامة النّجاسة، لا بل ذروة النّجاسة، دنا يسوع ولمسه؛ “فوقف الحاملون”، لأنّهم، طبعًا، ذُهلوا. هذا لا يحدث. لا يحدث، أبدًا، أن يقترب إنسانٌ من النّعش، ليجعل يده عليه؛ لأنّ هذا الأمر كان مخوفًا، بالنّسبة إلى اليهود؛ فهم يتنجّسون، إن فعلوا. “فدنا، ولمس النّعش؛ فوقف الحاملون. فقال: أيّها الشّاب، لك أقول قم”. نلاحظ أنّ الرّبّ يتكلّم بالضّمير الشّخصيّ، “أنا”. مَن يستطيع أو يجرؤ على الكلام بهذه الطّريقة؟ ومن يجرؤ على أن يقول لأحدٍ “قم” وهو ميت، إن لم يكن الله؟ للحال، “استوى الميت”، أي انتصب. “استوى الميت، وبدأ يتكلّم؛ فسلّمه إلى أمّه”. كلّ هذا، في الحقيقة، تأكيد لتجسّد ابن الله. الرّبّ لامس البشريّة. لم يلمسها لمسًا خارجيًّا، بل من الدّاخل. “لمس” بمعنى “اتّخذ”. جعل يده عليها. استردّها، بعد أن كانت قد زاغت، وضاعت، وضلّت. الرّبّ الإله، هنا، يستردّ البشريّة الميتة، ليعطيها حياةً جديدةً. طبعًا، نحن نعرف ثلاثة حوادث، أقام فيها الرّبّ يسوع أمواتًا. قد تكون هناك حوادث أخرى. لا شيء يمنع. لكنّ الرّبّ يسوع أقام ابن أرملة نايين؛ وأقام ابنة يايروس رئيس المجمع؛ وأقام، أيضًا، لعازر، الّذي كان قد صار له أربعة أيّامٍ في القبر. كلّ هذا كان ليشير إلى ما هو آتٍ: إلى موت الرّبّ يسوع، إلى صلب الرّبّ يسوع، وإلى قيامته في اليوم الثّالث، مقدّمةً لقيامة البشريّة، بإرساله، بعدما صعد إلى السّماء، الرّوح القدس من لدن الآب السّماويّ. بإرسال الرّوح القدس، روح القيامة بُثّ في البشريّة جمعاء.
إذًا، ما صنعه الرّبّ يسوع كان بمثابة نبوءة. كان الرّبّ يسوع يخبر به عمّا هو آتٍ وقد تحقّق. “فأخذ الجميعَ خوفٌ، ومجّدوا الله قائلين: لقد قام فينا نبيٌّ عظيمٌ، وافتقد الله شعبه”. كأنّ هذا الجمع قال، بفمٍ واحدٍ، ما جعله روح الرّبّ فيه. أوّلاً، في حضرة الله، يؤخَذ الإنسان بالمخافة. وبصورةٍ تلقائيّة، المخافة، مخافة الله، لا تؤدّي بالإنسان إلى التّراجع، أو الهرب؛ بل إلى تمجيد الله. هؤلاء خافوا، ومجّدوا الله، واعترفوا: “لقد قام فينا نبيٌّ عظيم”. والنّبيّ العظيم لقبٌ من ألقاب مسيح الرّبّ. “وافتقد الله شعبه”. أجل، افتقد الله شعبه، إذ افتدانا، واتّخذ موتنا وألمنا، وأخرجنا من المرض إلى العافية، ومن الموت إلى الحياة. إذًا، الرّبّ الإله فتح لنا بابًا على الملكوت. هذا معطىً لكلّ واحدٍ منّا، من دون استثناء. المهمّ ألاّ يبقى أحدٌ خارجًا. “تعالوا إليّ، يا أيّها المتعبون والثّقيلو الأحمال، وأنا أريحكم”.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
9 تشرين الأول 2016