ينقل الينا إنجيل اليوم حوارًا ضخمًا بين المسيح وامرأة سامرية خاطئة، حوارًا فيه كل معاني الخلاص، وفيه كل الفصح. والحادثة هي ان السيد بذهابه من اليهودية الى الجليل، من الجنوب الى الشمال، كان لا بد له أن يجتاز السامرة في الموضع الذي يُسمّى اليوم نابلس. هناك لا تزال البئر الى اليوم في موضع يزوره الحجاج.
جلس السيد عند الظهيرة لأنه كان تعبا. وجاءت المرأة فيما كان التلاميذ قد ذهبوا الى المدينة ليشتروا طعاما. طلب اليها السيد أن يشرب وتعجبت لأنه هو يهودي وهي من دين آخر ومن جنس آخر. السامريون قوم لا يزالون الى اليوم حوالى مئتي شخص في نابلس والمهجر. كانوا أصلا يهودًا، لكن اختلطت عبادتهم بعبادات وثنيّة عندما جاء أهل آشور وبابل واحتلوا فلسطين. بقوا في السامرة ولم يؤمنوا بالأنبياء. آمنوا فقط بكتب موسى الخمسة، وأما بقيّة أسفار العهد القديم فلم يقبلوها، ولذلك اعتُبروا أجانب عن الدين وعن الجنس.
تعجبت المرأة أن هذا النبيّ اليهوديّ يكلّمها، والقوم كانت بينهم قطيعة. فقال لها السيد: “لو عرفتِ عطيّة الله ومن هذا الذي يكلمكِ الآن لطلبتِ أنت منه وأعطاكِ ماءً حيّا”. ظنّت المرأة طبعا انه يتكلم عن الماء الذي يأتي من البئر وتعجبت انه يعتبر نفسه أعظم من يعقوب أبي الآباء الذي أعطاهم البئر. عندئذ نقلها السيد الى المعاني السامية فقال ما معناه: أنا لا أُكلّمُك عن ماء مادي يُشرب، ولكنني أُكلّمك عن ماء آخر، عن ماء غير منظور انا أعطيه للناس، من شرب منه لن يعطش الى الأبد. بل الماء الذي انا أعطيه يتحوّل في الانسان الى ينبوع ماء ينبع من الحياة الأبدية. وقوله هذا يعني أن من اتّحد بيسوع يصبح بدوره نبع حياة. ليس الله وحده نبع حياة روحية لنا ونبع نعمة ونبع عطاء، لكن كل مؤمن يصبح مثل المسيح تفيض منه حياة النعمة ومياه التعزية ومياه الكلام الطيب. المهم أن يصبح كل منا إنجيلا حيا. كل مسيحيّ ينبغي أن يكون كالمسيح، ينطق فمه بكلام من ذهب، وتشعّ عيناه بومضات من النور الإلهي، وكفّاه تلتصقان بالعطاء الربانيّ. القضية بيننا ليست قضية أكل وشرب، ولكننا نحن ينابيع. كل منّا ينبوع. إذا عرف كيف يتصل بالمسيح، يكون هو وكيل المسيح. كل مسيحيّ وكيل لأن كل مسيحيّ نبع.
سُحرت السامرية بكلام السيد وقالت: أعطني هذا الماء حتى لا أجيء ثانية الى هذه البئر. ورأى يسوع انه يستطيع الآن أن يحولها من امرأة خاطئة الى امرأة مقدسة فقال لها: “اذهبي وادعي رجلُك وعودي الى هنا”. قالت: “لا رجُل لي”. قال: “أَحسنت القول. كان لك خمسة رجال، والذي معك الآن ليس رجُلك. هذا فقط يعيش معك”. عندئذ تنبّهت وقالت: “يا سيد، أرى أنك نبي”. ثم أرادت أن تتكلم باللاهوت، فطرحت عليه سؤالا يُقارن بين اليهود والسامريين، قالت: “آباؤنا سجدوا في هذا الجبل -الجبل المعروف بجبل جريزيم المبنيّة عليه مدينة نابلس اليوم- وانتم تقولون ان السجود في اورشليم”. ونسمع يسوع يقول لها في البداية: اليهود على حق، وانتم أهل السامرة مخطئون، فإن الخلاص هو من اليهود. ولكن نحن الآن في منعطف جديد: تأتي ساعة، وهي الآن حاضرة، اذ الساجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالروح والحق، اي بمجيئي انا لم يبقَ من أهمية لدين اليهود ولا لدين السامريين، وليس من موضع لهذا الاختلاف السخيف إذ الساجدون الحقيقيون للآب يسجدون بالروح والحق، بعمق بالروح وبالصدق. القضية أن نصبح أُناسا روحيين مجرّدين عن التمسّك بالأماكن، ومجرّدين عن الأمور المادية وعن الذبائح الحيوانية في اورشليم. سوف يزول هذا الزمان الذي كان. الله الذي هو روح يُعبد بالروح، يُعبد بقلب طاهر، يُعبد بعقل نيّر، وديانةُ الكل تصبح في القلب. ثم كانت بقية الحادثة. تركت المرأة جرّتها وقد نسيت كل شيء عندما عرفت السيد، ومضت تبشّر، وجاءت بجماعتها فطلبوا اليه أن يبقى عندهم.
سُميّت المرأة السامرية منذ ذلك الحين “فوتيني” او فوتين، وهي كلمة يونانية تعني المنيرة او المستنيرة. استنارت المرأة السامرية وتابت عن شرّها الى يسوع والى محبته والى المناداة به. ونحن مثل فوتيني في هذه الفترة القائمة بين الفصح والصعود نبشّر بالإله الحي المحيي، بالإله النبع الذي تفيض منه ينابيع الى قلوبنا، فتفيض من قلوبنا الى الناس حوالينا.
جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
عن “رعيتي”، العدد 20، الأحد 18 أيار 2014